3-3
الإشارة تلك التي جعلت جمهور الليلة الأولى يعيد النظر بما فكر به عند حضوره، وبدل أن يسمعوا أجوبة تفسر لهم كيف عليهم التعامل مع الحي المشكلة مولينبيك، سمعوا من الكاتب، يخبرهم، أن كل بروكسل هي مولينبيك، وبدل أن ينظروا إلى ذلك بصفته مشكلة، عليهم أن ينظروا له بصورة ايجابية، وأن يبحثوا عن الجواب بينهم، ماذا فعلوه من خطأ، لماذا كل هذه اليد المطلقة للسعودية في أوروبا، وفي بلجيكا وبروكسل على وجه الخصوص؟ ماذا يأتي من السعودية وجوامعها التي فقط اثنان منها في مولينبيك غير وعائظ الشر؟ الايديولوجية الوهابية خطرة، قوتها بقوة البترودولار السعودي، وإذا لا تعيد أوروبا علاقتها بالسعودية، عليها ألا تستغرب أن تتحول عواصمها إلى ما يشبه بغداد.
جمهور الليلة الثانية الكبير شغلته هموم أخرى، ففي بيت الزوجين غواندو وكيون لين البلجيكيين، الفنانين اللذين يديران مؤسسة ماكسميليان للسينما، هما ليسا على علاقة مع المهاجرين الجدد وحسب، يزورونهم في معسكرات اللجوء ويهتمون بمشاكلهم وحسب، بل حولا بيتهما إلى مركز للقاء المهاجرين منهم الذين يهتمون بشؤون الفن، قرابة ثلاثين شاباً وشابة من سوريا والعراق وفلسطين وبلدان أخرى قدموا في تلك الأمسية، فريق جماعي حقيقة، بعضهم يهتم بمجال السينما، البعض الآخر بالفنون الأخرى، بالغناء أو الرسم، ومن لا يمارس ذلك، يهوى الفنون، أقدمهم جاء إلى بروكسل قبل سنتين، العديد منهم مازال بلا أوراق، في تلك الليلة لم يكن كلهم فضول لما سيقرأ عليهم الكاتب القادم من برلين، تلك المدينة التي يعشقونها في الحقيقة أكثر من بروكسل، "لكن في بلجيكا، يحصل المهاجرون على الأوراق أسرع"، كما قالوا لي، لم يكن كلهم فضول وحسب، بل طبخوا، وغنوا، ناقشوا وتناقشوا، والإرهاب؟ وما حصل؟ يضحكون عندما يسمعون ذلك، نعم يتفهمون خوف البلجيكيين، لكنهم يجدونه مبالغاً، وهم لا يقولون ذلك عن غرور، بل عن تجربة وخبرة، وهل هناك أكثر خبرة من عراقي أو سوري بالحرب والدمار والخراب؟ الاثنان أصبح الموت وأصوات الانفجارات، كل ما يجلبه ذلك من عويل، كل ذلك تحول بالنسبة لهم بمثابة روتين. نعم، أنهم يعانون من بعض الهجمات العنصرية، أحدهم تعرض قبل أيام إلى هجوم من الهولغينز على البيت الذي يسكن به، حطموا الزجاج وكادوا يجرحونه، لكن "الحمد لله، مر الأمر بسلام"، نعم، يستغربون أن يحدث ذلك في أوروبا دول القانون، أوروبا عصر التنوير وحقوق الانسان، وأن ما يتعرضون لهم يشكل خطراً على حياتهم في بعض الأحيان، لكنهم شاكرين لبلجيكا وأوروبا التي سمحت لهم بالعيش بعيداً عن الحرب، ولو مؤقتاً، ما تزال أمامهم حياة طويلة، وذلك هو المهم، صورة الشباب هؤلاء الذين تحولت ساعتا القراءة المقررة سلفاً معهم إلى ساعات، سهرت معهم حتى الواحدة ليلاً، صورتهم بفرحهم، بحماسهم، وهم يتحدثون عن الحياة التي تنتظرهم، عن مستقبلهم، لا يهم ما يلفه حتى الآن من غموض، هي الصورة الأخرى لبروكسل، كأنهم بسلوكهم، بحضورهم الجديد في المدينة، ينقلون لسكانها خبرة بكيفية العيش مع الخطر بسلام.ومولينبيك المشكلة؟ هذا الحي العابر لكل القادمين الجدد إلى المدينة، ليس هناك أسهل من الحصول على بيت للايجار فيه، وما أن يستقر المرء في المدينة حتى يغادره إلى حي آخر، أليس ذلك ما جعله صورة مثالية لخيلط الاجناس والقوميات والأديان في بروكسل؟ ومن يتجول نهاراً في الحي، سيلاحظ الصورة هذه بوضوح، في محل الحلاقة مثلاً الذي أسلمت إليه شعري، يعمل ثلاثة حلاقين: كردي سوري، جزائري وفلسطيني، أما الزبائن، فكانوا، مقاولا تركيا، معلما مغربيا، زميلا المانيا لي، بلجيكيا، وأنا. أية خلطة مدهشة، وهم يعرفون ذلك، أحدهم كأنه عرف ما يدور في رأسي، "نحن هاربون من بلداننا، لكي نعيش هنا أولاً مع بعض في سلام". تعليق لا يخلو من الحكمة حقيقة.
إنها بروكسل، وهي الصورة المسالمة هذه التي يريد تحطيمها الارهاب، "الارهابيون يريدون تهديم طريقتنا بالعيش"، يقول البعض، كما نقرأ على مانشيتات الصحافة، وهم يقصدون شرب الشمبانيا واشباع البطن، كأن الثقافة والحضارة هي هذا فقط، وليس العيش بسلام جنباً إلى جنب، من غير المهم لون الجلد والجنسية، المذهب أو الدين، كل ما يجده الزائر حتى اليوم في شوارع بروكسل وأسواقها، في حاناتها وجوامعها، كل ما يجعل الزائر يطلق عليها مثلما أُطلق على بغداد يوماً: بروكسل مدينة السلام، وهو هذا السلام الذي على المرء النضال من أجل المحافظة عليه. ليس في بروكسل وحسب. في النهاية بروكسل هي عاصمة أوروبا، فلماذا لا تكون النموذج الذي على أوروبا السير عليه منذ الآن؟
يُنشر بالتزامن مع نشره في صحيفة نويرتزوريشير تزايتوغ السويسرية
بروكسل وجمهور عراقي وبلجيكي
[post-views]
نشر في: 26 يوليو, 2016: 09:01 م