من بين الشخصيات النسائية كنت معجباً بشخصيتي مريم المجدلية ؛ وتاييس. مريم المجدلية كانت رفيقة المسيح ؛ وهناك اجتهادات كثيرة حول طبيعة العلاقة بينهما. وتاييس كانت اشهر غانية اسكندرانية من اصل روماني عاشت في القرن الرابع الميلادي. وقصتها معروفة مع الراه
من بين الشخصيات النسائية كنت معجباً بشخصيتي مريم المجدلية ؛ وتاييس. مريم المجدلية كانت رفيقة المسيح ؛ وهناك اجتهادات كثيرة حول طبيعة العلاقة بينهما. وتاييس كانت اشهر غانية اسكندرانية من اصل روماني عاشت في القرن الرابع الميلادي. وقصتها معروفة مع الراهب بافنوتيوس، الذي اقنعها بترك حياة الليل لتصبح قديسة. وقد افلح في مهمته، لكن الراهب نفسه عشقها وهام في حبها ، بعد فوات الأوان.
وكنت افكر في الكتابة عن امرأة عصرية فيها مواصفات من مريم المجدلية او تاييس. ذلك انني كنت اريد ان اكتب عن الجمال والجنوح، ثم " التوبة" ، على غرار مريم المجدلية او تاييس. والحق ان الرواية التي كنت افكر في كتابتها هي في الأساس عن الجمال الخارق ، باعتباره أعظم قوة على وجه الارض، على حد تعبير اناتول فرانس مؤلف قصة تاييس. وكانت تاييس فاتنة عصرها، وقد اصبحت اكبر غانية وراقصة ومحظية في أيامها. فهل كان الجمال الخارق وراء "سقوطها"؟ انا فكرت أيضاً في مقولة جان بول سارترمن ان "الجميلات هن إما يكنّ بورجوازيات، او بنات هوى".
وكنت افكر في كتابة رواية عن امرأة خارقة الجمال، واردت لها ان تكون مريم مجدلية عصرية. ولم يكن من المتعذر عليّ ان اجد شخصية مثل المسيح لتلجأ اليه المجدلية في آخر المطاف. كانت هذه قصة (فرس البراري).
وكانت (فرس البراري) آخر رواياتي، او مسك الختام، كما يقال. وكنت اريد ان اقول اشياء كثيرة في هذه الرواية، واشياء جميلة ومثيرة للاهتمام والفضول. وانا لاينقصني ذلك! فحاولت ان اكتب رواية غنية في احداثها ، وافكارها، ومتألقة في شخصياتها. من بين شخصياتها الاساسيين واللامعين، البطلة تمارا، الخارقة في جمالها ، وذات الشخصية الساحرة؛ والكاتب هيثم بغدادي، الذي يتمتع بثقافة عالية في كل شيء، لاسيما الموسيقى؛ ودبلوماسي بريطاني مثقف سيكون له دور مهم وخطير في قصة حياة تمارا؛ وفيلسوف سيكون هو بمثابة مسيح في سيرة حياة تمارا؛ وآخرون، بعضهم ثانويون، لكن ادوارهم لا تقل تألقاً.
سيكون "المال " هو داينمو الرواية وعقدتها. وسيكون له دور خطير في تحديد مصير البطلة . فهي ستستخدم جسدها من اجل ان يكون المال تحت تصرفها... آه، ان المال هو الإغواء الأخير لتمارا. فنحن هنا سنكون امام ثالوث الجمال، والجسد، والمال، الذي سيشكل عقدة الرواية.
لكن الرواية اوسع من ذلك بكثير، وأغنى. فهي رواية بطلتها امرأة آسرة في مواصفاتها الجمالية، لكنها متحررة جداً، ولا يقف في وجهها شيء. وهي رواية غنية جداً في أفكارها من خلال شخصية الكاتب اللامع هيثم بغدادي الذي يتمتع بمؤهلات ثقافية عالية جداً. وسيكون للموسيقى حضور متألق ومتميز من خلال احاديث هيثم بغدادي، وتداعيات ذلك على هيمانات تمارا بها. وفي هذا الاطار، انا سأكرس للموسيقى شخصيتها الساحرة في هذه الرواية. ان حديث هيثم بغدادي عن سايكولوجية بعض الآلات الموسيقية ، مثل آلة الهاربسيكورد؛ وعن استيتيكية الحزن في الموسيقى؛ وعن تقنية الوهم في موسيقى البيانو عند ديبوسي ورافيل؛ كان لها دور هائل في كسب ود تمارا وإدارة رأسها. كما ان ذكرياته السياسية واحاديثه ستشكل عصباً مهماً في الرواية، لا سيما حواره مع الدبلوماسي الاميركي حول لعبة حرب الكويت.
لكن هيثم بغدادي كان "فقيراً" لا يستطيع ان يلبي طموحات تمارا في البذخ الذي عاشت في بحبوحته في بيت أبيها الجنرال العسكري، ثم في بيت زوجها المليونير، ثم مع الدبلوماسي البريطاني الذي امضت معه مشواراً باذخاً في البرازيل. ان نداء المال كان أقوى من نداء العقل رغم كل اهتماماتها الثقافية. فقررت ان تستثمر جسدها التاييسي في كسب الثروة، ولسوف تكتشف أيضاً ان لها موهبة هائلة في فن الرقص (الشرقي). فتخبر صديقها هيثم بغدادي، الذي كانت تعيش معه ، بانها تريد ان تستفيد من جمالها الهائل. فيطردها من شقته المتواضعة التي كانت السبب في تمردها. وترحل الى ميامي في فلوريدا لتلتحق بأمها الاميركية.
هنا تبدأ مرحلة جديدة من الرواية. وكان في وسعي ان انهيها هنا بعد ان تتعرف الى الفيلسوف الاميركي اندرو كلارك. لكنني اردت ان اجعل البطلة مريم مجدلية عصرية، ويصبح الفيلسوف اندرو كلارك هو المسيح الذي تلجأ اليه بعد ان تدمر روحها حياة البغاء ( وان كان راقياً جداً).
لقد كانت هذه المرحلة استثناء متميزاً في حياة تمارا، لم تلعنها بالمرة، بل وجدتها مدغدغة لها. حياة بغاء راقية، تنقلها سيارة ليموزين كل ليلة من بيتها الى بيوت عشاقها الاثرياء الذين يستهينون بالمال امام جسد مذهل؛ لقاء مظاريف منتفخة بمئات الدولارات وآلافها، ستكون تجربة مذهلة رغم "مهانتها". وقد اتيح لها هنا ان تتعلم فن الرقص (الشرقي) وتصبح ملكته ببراعتها الفائقة وبفضل ما تتمتع به من جمال تاييسي. ( وقد كتبت هنا فصلاً متألقاً عن فن الرقص وعن المرأة كجسد. فكان هذا الفصل، مع الحوار السياسي مع الدبلوماسي الاميركي ، من ألمع فصول الكتاب).
انا كتبت فصل الجنوح لأنني اردت ان اجعل من تمارا مريم مجدلية عصرية ، وانا كنت حزيناً لمعاملتي القاسية هذه مع هذه البطلة التي كنت احبها بإفراط.
سأعترف بأن المسيح كان قدوتي في استسهال هذا المآل للبطلة تمارا، في قوله للرعاع عندما هددوا المجدلية برجمها بالحجارة: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". لكن الأهم من هذا قوله: " اني اقول لكم بلا مواربة ، إن جباة الضرائب وبنات الهوى يدخلون مملكة الرب قبلكم" (مخاطباً بذلك الحواريين).
هذه المقولة استوقفتني كثيراً. فهنا يكون للبغايا قصب السبق في دخول مملكة الرب. فكيف يمكن تقديم تفسير لذلك؟ طبعاً، قدمت لي هذه المقولة مبرراً للإحجام عن تأنيب الضمير بشأن ركوبها هذه المغامرة "الشائنة".
لكن هذا التبرير لم يرد ذكره في الرواية، ولم يكن القراء على علم به. ثم إذا كنت انا مقتنعاً بقول المسيح، فمن يضمن ان القراء سيلمسون قناعة في تبرير البغاء حتى لو صدر ذلك عن المسيح؟
هذا الموضوع ظل يشغل بالي بقوة. ماهي ظاهرة البغاء، وهل هي مقيتة حقاً مع ان نسبة كبيرة من النساء مارسته على مدى التأريخ؟
وانا لم يكن لدي موقف سلبي من البغاء يوماً ما. وكنت أكنّ للبغايا احتراماً. وانا اتفق مع المسيح في مواقفه الطيبة مع البغاء. وأذكر ان القرآن قد تعامل مع البغاء بمرونة. وأعود الى مريم المجدلية وكيف كان المسيح يعاملها بحب. بل أن أحد الأناجيل غير المعترف بها ذكر ان المسيح كان يقبل المجدلية من فمها.
لكن البغاء يبقى حالة خاصة في سايكولوجيته. فتمارا كانت من الخارج امرأة قوية، لكنها من الداخل ذليلة. هذه السايكولوجية لم تبارحها حتى بعد ان تخلت عن حياة الليل. كيف كانت تقضي سهرة الليل مع الزبون، حتى اذا كان جمّ التهذيب ويتعامل معها بكل لطف واحترام، كالصديق. لكنها كانت تشعر بالمذلة ليس لأنها تقدم جسدها لهذا الزبون او ذاك، بل لأن كل التصرفات التي كانت ترافق هذا العمل كانت مفتعلة. كانت كل لياليها نفاقاً سايكولوجياً مع العشاق. ولقد هالها حين أفاقت من نزوتها كيف كانت تمارس ذلك الكذب السايكولوجي على مدى كل تلك الاشهر اللعينة. والأنكى في الأمر انها تخلت عن المال الذي جمعته من مغامرتها، ولم تمتد يدها اليه. ولم تكن في حاجة اليه. فلماذا جمعته بكد جسدها العزيز؟ وكيف تلغي ذاكرتها؟
فكرت في ان تعاقب جسدها الذي تمرد عليها طوال تلك الشهور. فرأت ان تصبح راهبة (امها مسيحية). واختارت ديراً للراهبات. واتفقت على موعد مع السكرتيرة. وفي الموعد المحدد، سألتها السكرتيرة عن سبب طلبها الالتحاق بالدير كراهبة. فأخبرتها تمارا بأنها مارست البغاء عاماً ونصفاً. وتريد ان تكفّر عن ذلك. عند ذاك طلبت منها السكرتيرة ان تقدم اعترافاً للقس. فأكدت تمارا ان لديها اعترافاً مدوناً في مذكرات كانت قد كتبتها عن سيرة حياتها، وتشمل كل ما يتعلق بجنوحها. فطلبت منها السكرتيرة ارسال مذكراتها الى بريدهم الالكتروني.
وبعد اسبوعين اتصلت السكرتيرة بها، وحددت معها موعداً للقاء رئيسة الدير.
كان اللقاء لحظة حاسمة من حياتها، فمارست تمارا حريتها بالكامل في التبذل قبل ان تودع الحياة الطبيعية التي كانت تحياها.
وفي موعد اللقاء مع المديرة، وكانت شخصية كيّسة جداً ومحبة، استقبلتها المديرة بالكلمات الآتية:" انت حدث استثنائي في ديرنا."
وارسلت في طلب قهوة لكلتيهما، ثم قالت:" انا قرأت اوراقك المذهلة باهتمام. هذه ليست اعترافات فحسب، انها عمل ادبي جميل. وانا احمد الصدفة التي دفعتك الينا. والآن سيكون لي حديث طويل معك حولك انت، وحول هذه الاعترافات."
ثم قالت لها:" لنبدأ بطلبك. انت تريدين الانتماء الى سلكنا، هل لي ان اسألك لماذا، يا ابنتي؟"
قالت لها تمارا:" انت قرأت اعترافاتي ،يا سيدتي، وانا اريد ان اكفّر عن خطاياي مع الرجال."
"أية خطايا، يا طفلتي؟ تلك لم تكن خطايا، هل تعلمين؟"
"فما هي، يا اخت؟"
قالت المديرة ،لذهولها:" أنت كنت يوتوبيا بالنسبة للرجال، يوتوبيا، ففيم عذاب الضمير؟"
"لكنني كنت اتسلم مالاً من الرجال، يا اخت."
"مال، ما عيب ذلك؟ البابا كان يتسلم مالاً لقاء صكوك الغفران، وهي قبض ريح. أما أنت فتسلمت مالاً لقاء اللذة التي قدمتها للرجال."
قالت تمارا للأخت مريم :"ماهي اللذة يا اخت؟"
"تسألينني أنا عن اللذة ، وانت كلك لذة ؟ انت من اجمل اللوحات الفنية في الوجود. إن النظر اليك سعادة، فكيف لو تم امتلاكك؟"
"لكنك تتحدثين عن الامتلاك، يا اخت."
"نعم، الامتلاك هو يوتوبيا. وانت كنت توزعين سحرك على الرجال، لقاء مال ، طبعاً، والا ماذا سيكون ثمن سحرك؟"
" فأنا لم اكن مخطئة، يا سيدتي؟"
"لا تكوني بلهاء، يا ابنتي، انت كنت يوتوبيا. عودي الى مسيحك اندرو كلارك، فأنت لست في حاجة الى ان تزفي الى المسيح الأكبر؛ هو ليس في حاجة اليك."
"فما هي مهمتك ، يا اخت، اذا كنت تصدينني عن الالتحاق في سلككم؟"
"مهمتي ان ارعى المسكينات من بنات حواء. أما انت فما شأنك والرهبنة اذا كنت غير مؤمنة؟ انت لست مؤمنة ، يا ابنتي؟"
"لست مؤمنة، يا سيدتي."
"فلماذا تريدين الالتحاق بالدير، وتزرعين الفساد فيه. انت راقصة مذهلة، وستطلب كل راهباتنا الاذن منك لتعليمهن فن الرقص الشرقي."
" فأنت لا تتقبلين فن الرقص الشرقي؟"
" معك شيء آخر، انت ملكة الرقص."
وقرع الجرس ليقدم لهما الغداء. ولاحظت تمارا من فتحة الباب تكأكؤ عدد من الراهبات. كانت في ذهول حقاً.
سأقول شيئاً في الختام، هو ان الأخت مريم أعادت الى تمارا حب الحياة.