اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > "نصب العمال": العمارة بصفتها عملاً نحتياً

"نصب العمال": العمارة بصفتها عملاً نحتياً

نشر في: 30 يوليو, 2016: 12:01 ص

يتسم منتج المعمار رفعة الجادرجي (1926) التصميمي بتنويع مدهش للموضوعات التي يتعاطى معها معمارياً. فـ"ريبرتواره" الإبداعي واسع ومختلف. ومن ضمن "الثيمات" التي تناولها معمارياً، وجعلته فريدا ومتفرداً في المشهد المعماري المحلي، اهتمامه الزائد بموضوعة "الن

يتسم منتج المعمار رفعة الجادرجي (1926) التصميمي بتنويع مدهش للموضوعات التي يتعاطى معها معمارياً. فـ"ريبرتواره" الإبداعي واسع ومختلف. ومن ضمن "الثيمات" التي تناولها معمارياً، وجعلته فريدا ومتفرداً في المشهد المعماري المحلي، اهتمامه الزائد بموضوعة "النصب" الفنية.

لنتذكر "ايقونته" النصبية الرائعة الخاصة بـ "الجندي المجهول" (1959) في ساحة الفردوس، وكذلك "نصب الحرية" (1959) في ساحة التحرير ببغداد. وفي اعتقادي، فإن المداخلة التصميمية والفعل التشاركي ما بين المعمار والنحات، اللذين اولاهما رفعة الجادرجي اهتماماً مبكراً ووافراً، افضت لأن يكون ناتج العمل المشترك، ذا قيمة جمالية عالية، وذا هيئة معبرة. في كثير من الاحيان، يأخذ المعمار، شخصياً، على عاتقه، هو العارف جيدا، قيمة المقياس ونوعية خصائص المادة الانشائية، وخصوصية الموقع ومزاياه ... (وسلبياته أيضا!)، يأخذ بالتقصي عن قرار تصميمي، تكون فيه "العمارة" ذاتها بمثابة عمل "نحتي"ـ تقتصر بالأساس على إظهار مزاياها الفنية فقط.
في أحد "تمريناته" المشوقة في هذا المجال، والمتعلقة باضطلاعه مهمة تصميم "نصب العمال" (1969)، في مشروع اسكاني ببغداد. وجد المعمار نفسه، فجأة، أمام تحدٍّ ابداعي، ارتضى ان يكون في صميم غماره، سائراً به الى نهايته المرجوة. إذ كلف المعمارـ وقتذاك، في اعداد ذلك المشروع الاسكاني الخاص بالعمال، ولأسباب نجهلها، مثلما يجهلها المعمار، فإن المشروع ذاته لم يكتب له التنفيذ. ما نفذ هو "النصب" لوحده فقط، الذي قدر ان يكون شاهداً على مشروع غير متحقق! وهي مفارقة تصميمية، لم تخلُ الممارسة المهنية المحلية منها ومن مثيلاتها، سواء أكان ذلك في الماضي القريب، ام في الوقت الحالي. (ان كانت ثمة ممارسة اصلاً حالياً للإسكان العمالي، او للإسكان بصورة عامة!).
يحدد المصمم اشتراطات معينة، ينبغي ان تتحقق في مشروع النصب ذاته، وفي مصمم المشروع نفسه، حتى يكون "النصب" ذا قيمة فنية عالية، تتساوق مع أهميته وغرضه وجمالياته. ومن تلك الاشتراطات الخاصة بالنصب، شرط الديمومة، وطبيعة المواد الانشائية المستخدمة والرمزية ووضوح التعبير والرسالة التي يبلغها ذلك النصب. اما شروط المصمم فهي تنحصر في ايمان المبدع بالقضية وبالرسالة، كما انه معني أيضا في ترجمة تلك الرسائل والاهداف الى عمل فني مميز. ويكتب المعمار عن ذلك النصب لاحقا في كتابه "الاخيضر والقصر البلوري" الصادر في 1991، من ان هدف هذا النصب، وكما فهمه من إدارة المشروع، بأنه "يخلو من اية رسالة او التطلع لمعنى ما. كما انه لا يتعدى ان يكون تبجحاً لغرض التشبث بكرسي الوظيفة ليس إلا..." (الاخيضر... ص. 413). ولكن مع هذا فإن المعمار انغمس لاحقاً في إيجاد مبررات لعمله هذا، بعد ان اندمج مع فكرة النصب، كما يراها هو، وليس كما "حددها" رب العمل. "فانتقل النصب في ذهني، كما كتب في المصدر اياه، الى نصب للقوس بذاته، فشغفت به حباً وصرت في اشد ما تكون الحماسة لإنجازه..." (المصدر نفسه ص. 418).
وأيا تكن النوازع والخيارات لدى المصمم، فإننا، في النتيجة، أمام "حدث" تصميمي قائم. ليس شرطاً ان يعرف المرء دوافع التصميم و"فكرة" المعمار، كي يمكن ان يدرك مغزاه او ويسعى الى تقييمه. "فالقراءة" المعاصرة تنبذ "الواحدية" الدلالية، ولا تعترف بها. بل وتذهب بعض القراءات النصية الى التغاضي، بتعمد، عن أفكار المصمم/ المؤلف، وتنادي "بموته"! بمعنى غيابه عن المشهد، كما ينادي بذلك "رولان بارت" في اطروحته "موت المؤلف" التي راجت كثيراً في الأوساط النقدية بالفترة الاخيرة؛ بغية الاحتفاء بقراءة المتلقي الخاصة والمتفردة، ذلك القارئ المعبأ بمزاج معين، والعارف بمقاربات الفترة الراهنة، فترة ما بعد الحداثة!
في "نصب العمال"، يسعى رفعة الجادرجي وراء تغييب العمارة الناجزة وتجريدها من اهم خاصيتها المهيمنة، تلك الخاصية، التي تجعل من العمارة..."عمارة"! وأعني بها "الخاصية الوظيفية" او الاشغالية. اذ كل شيء يحضر "معماريا" في ذلك النصب: الانشاء، والتركيب، والمادة، والشكل، وما يتبع ذلك من قيمة جمالية، عدا تلك الخاصية السائدة والغالبة. وبهذا القرار، فان المصمم طمح الى ان يكون تصميمه مترعاً بجماليات يشي وجودها بنوع من الدلالات الرمزية. وإذ اختار المعمار شكل "القوس"، الشكل المولع به تصميمياً، والذي يحضر في تكرار مسهب في جميع تصاميم الجادرجي السابقة لتاريخ هذا النصب، فإنه بذلك ينزع الى الإشارة "الهيئاتية" لذلك العنصر المتمثل بتلك "الانحناءة" الرقيقة الحافلة بالرمزية، حيث يتصاعد خط القوس من الأرض مباشرة نحو الاعالي، ليعود مرة أخرى الى تلك الأرض التي انطلق منها!
تتواجد في نصب العمال، اشكال متباينة لأقواس عديدة. بعضها يلتصق مع البعض الآخر، وثمة اقواس مفرغة، والأخرى ممتلئة. وهذا التنويع المدهش في اشكال الاقواس وحجومها المشكلة لتركيبة النصب، يرافقه تنويع آخر، يتجسد في تباين ارتفاعات أشكال تلك الاقواس المتنوعة. تنهض مجموعة اقواس النصب على قاعدة غير مرتفعة، يرتقي الى أعلاها عبر درجات قليلة من الجانبين. أي ان المعمار يسعى وراء "رفع" المجموعة المؤلفة للنصب، لتأكيد طابعها الرمزي، والنأي بها يعيدا عن التصورات الواقعية التي قد تشي بها اشكال الاقواس المختارة. كما يهدف من جراء وجود تلك "القاعدة" الإيحاء بفصل تركيبة النصب وعزلها عن "ضجيج" مجاوراتها وتميزها عنها!
وفي العموم، فإن "نصب العمال" يندرج بما يسمى "الشكل الحر الطليق"، الذي ما برح يومئ الى مرجعيته المعمارية تارة، والى جماليته التي توحي بها، عادة، الاعمال الفنية الإبداعية، تارة أخرى. لكن الأهم في كل ذلك، هو حضور "موضوعة" النصب المعمارية في الممارسة التصميمية المحلية، والتي تكاد تكون مغيبة تماما عن الممارسة المعمارية المحلية الحالية؛ هي التي اجتهد رفعة الجادرجي بذهنيته المتقدة على تبيان وجودها، وجعلها لتكون احدى مخرجات الناتج المعماري العراقي، شأنها شأن تلك التمارين الإبداعية التي تكفلت بها خيرة عقول معماري الحداثة وما قبلها... وما بعدها! لنتذكر نصب لو كوربوزيه "اليد المفتوحة" في مدينة "جنديكار" بالهند، وكذلك النصب التجريدي في مدينة برازيليا "لأوسكار نيماير"، ونصب "لويس كان" في مجمع مباني برلمان دكا، وغير ذلك من التمارين المشوقة، التي عدّ "تمرين" الجادرجي إياه، إضافة مميزة الى نماذج تلك الذخيرة الإبداعية، التي ساهمت بكفاءة في تنويع المنتج المعماري. نقول هذا، بغض النظر عن مآل "نصب العمال" البغدادي، ونهاياته المحزنة، التي لا يعرف عنها وعن وجودها كثر من الناس، بضمنهم "ناس" الوسط المهني. هذا فضلا عن غياب كلي لـ "تيمتها" في المشهد الفني المحلي... والثقافي أيضا!
والمعمار رفعة كامل الجادرجي، مصمم "النصب"، الذي تحتفل الاوساط المهنية والثقافية في "تسعينيته" في هذا العام 2016 (هو المولود في 6/12/ 1926 ببغداد)، ومقالنا هذا، هو من ضمن مقالات آخرى مكرسة لتلك المناسبة، أنهى تعليمه المعماري من مدرسة "هامر سميث للفنون والاعمال" (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد الى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب "الاستشاري العراقي" (1953)، وانضم لهم، بعد ذاك معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب ان تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحداثية، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1959) في العلوية، نصب الجندي المجهول (1959) في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في ابي غريب، بغداد، ومبنى التبوغ (1961)، في شارع الجمهورية ببغداد، مبنى التأمين (1966) في الموصل، مبنى اتحاد الصناعات العراقي عند ساحة الخلاني ببغداد (1966)، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971) <بالاشتراك مع هنري زفوبودا>، في السنك ببغداد، دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة. أصدر الجادرجي عدة كتب تعاطت مع الشأن المعماري والفني والأنثروبولوجي مثل: شارع طه وهامر سميث (1985)، صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو اقلمة العمارة الدولية (1986) <باللغة الانكليزية>، الاخيضر والقصر البلوري (1991)، حوار في بنيوية الفن والعمارة (1995)، ومقام الجلوس في بيت عارف آغا (2001)، جدار بين ظلمتين (2003) <بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، وقد أصدر اخيرا (2014) كتابا ضخما بعنوان "دور المعمار في حضارة الانسان". سبق وان حاز الجادرجي على جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986). مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في اقامته بين لندن وبيروت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram