TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى وفاته..حسين عبد اللطيف.. شاعر وجد الحزن في الحياة والسعادة في الموت!

في ذكرى وفاته..حسين عبد اللطيف.. شاعر وجد الحزن في الحياة والسعادة في الموت!

نشر في: 6 أغسطس, 2016: 12:01 ص

في يوم 10 تموز 2014  تعجلت  يد القدر أفول نجم لامع من سماء الشعر العراقي – البصري, وهو في عربة خيوله المُطَهَّمة بالشعر نحو الأبديّة . لكن الأبدية هنا تبدو على مستويين: الأول, أن روحه المتجسدة في شعره مازالت في تواصلها مع العالم الذي

في يوم 10 تموز 2014  تعجلت  يد القدر أفول نجم لامع من سماء الشعر العراقي – البصري, وهو في عربة خيوله المُطَهَّمة بالشعر نحو الأبديّة . لكن الأبدية هنا تبدو على مستويين: الأول, أن روحه المتجسدة في شعره مازالت في تواصلها مع العالم الذي تركه, من خلال قصائده التي تتجلى بها صورته التأملية وصوته الذي ليس لنا إلا أن نتعاطف ونحزن, بل ونبكي على مصائرنا معه.

فقد أصدر مجاميعه الشعرية وهو يعيش في عالم مديني وجد فيه واقعا مغايرا لتوجهاته النفسية والفكرية وهذا ما نلاحظه في العديد من قصائد المجاميع: على الطرقات أرقب المارة سنة 1977, ونار القطرب سنة 1994, ولم يعد يجدي النظر سنة 2003, وأمير من أور سنة 2010, وبين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة – متوالية الهايكو سنة 2012,تساؤلات مع المترجمة سحر أحمد واخيرآ مقدمات السّياب سنة 2014.
أما المستوى الثاني, فهي أبدية عالم الأجساد  Realm of eternity bodies  التي حملت جسد شاعر التزم بحزنه النبيل Noble Grief فلم ينطق به في العلن لمراحل عديدة من حياته , فجعله ينزف في أوانيه الشعرية بأنماط مختلفة ومصداقية واضحة حتى بدا مظهرا من مظاهره  الذي تجاوز في صياغاته المرحلة تلو الأخرى. من هنا تهتم المقالة بالتركيز في إبراز نواحٍ كثيرة من بينها الجانب المحزن والصراع النفسي الداخلي Inner conflict في مشاعر وأفكار الشاعر  كمدار عام تدور حوله القصائد  . يربط المدار هذه المراحل وحسب السياق الزمني لإصداراته الشعرية من ناحية وبين عالم الواقع الذي يعيشه الشاعر من ناحية أخرى . وتعرفنا المقالة ,أيضا, على أسرار بعض من شعره الغامض (= المبهم) ودلالاته الرمزية والفلسفية وعن قصيدة استباق الموت وكذلك تأثّره بشعراء من العالم ومن بيئته وأثرهم في تجديد شعره وجوانب أخرى كثيرة لا تستحق الإهمال من جانب المتلقي الحصيف لأنها تزيد من التعرّف على هذا الشاعر الذي ولد في بغداد وجاء إلى البصرة ليضع فيها حقائب سفره . فلم يضل الخطو في هذه المدينة الباسلة , بل تخرج منها شاعرا تخيّر في قصائده الموقف الجلي والغامض إزاء الحياة التي أرهقته بتقلباتها فمضى بجسده الذي تسابق به مع الموت حتى اعتلى منصة الشرف تاركا عربات الحمولة المليئة بالكتابات لهذه المدينة  ومكتباتها لتسكن إلى الأبد  .
مما يجدر ذكره أن الحزن , في الواقع الإنساني , له مراحل عديدة في حياة الإنسان, فمنهم من يقول أنها سبع مراحل ومنهم من يقول خمس. ولكن ليست بالضرورة أن تتعاقب الحالات الواحدة تلو الأخرى, فأحيانا يمر الإنسان بمرحلتين في آن واحد أو تتطور جميعها لدى الإنسان دون انتظام. وعلى سبيل المثال فأن القنوط "depression" غير السريري, والعزلة isolation, والوحدة loneliness تحدث بعد شهور من أي حادثة مأساوية. وأنا أفترض هناك مراحل مرّ بها الشاعر يمكن ان تتماهى مع مراحل الحزن التي يراها علماء النفس .
المرحلة الأولى
في هذه المرحلة التي , ربما , تمتد من منتصف الستينات وحتى إصدار مجموعته الشعرية "على الطرقات أرقب المارة" سنة 1977 يبدأ مشهد عالمه الحزين بالظهور فيستهل المجموعة بمقتبس من وليم فوكنرWilliam Faulkner يقول فيه : " تحدث عن الجنوب , ماذا يشبه , ماذا يفعلون هناك , لماذا يعيشون على أية حال ؟ - أنك لا تستطيع أن تفهم , كان يجب أن تولد هناك" .
ترى هل وجد الشاعر في هذا المقتبس عذرا له وتأييدا للتركيبة النفسية  التي يخلفها الجنوب على أبنائه ؟! أم ترى الأنا العليا Super ego تجعل تقمصه لهذه المثل والمعايير(= الاقتباسات ) وكأنها جزء من كيانه النفسي , بينما " الأنا " محددة بما تمتلك من خبرات ذاتية ووقائع فعلية  كما يزعم فرويد Freud؟! أم هي ,من ناحية أخرى, إضافة شاهد , بل نصير لخطابه الشعري ؟ أم أن الشاعر أراد اشراك المتلقي ليصنفه ضمن شعراء الحزن والحيرة ؟!   فالكاتب وليم فوكنر من الجنوب الأمريكي – ولاية ميسيسيبي  وقد أدرك منذ زمن بعيد بالأثر النفسي الذي تركه الجنوب فيه بسبب الإهمال والتهميش الذي رافق سياسة الحكام آنذاك .
الإجابة على هذه الأسئلة  تكمن في قراءة أشعار المجموعة . لذلك سنقرأ أشعارا, ربما , لا تنفصل عن تأثير البيئة الجنوبية – البصرية في الشعور النفسي للشاعر لذلك فهو ينضم إلى فوكنر في تلك العبارات ليظهر صلة القرابة معه وجذر الحزن الذي يشترك به , إذ يلاحظ في قصائد هذه المجموعة سمة الحزن الذي يرقى إلى مستوى النبالة وهو يتدفق كأنه جدول  يمتد من فترة الثلاثين حولا من حياته ولغاية بدأ الكتابة بالشعر وإصداره لهذه المجموعة, إضافة إلى ما يحمله الشاعر من الموضوعات الإنسانية الخاصة بسيرته الذاتية من ناحية وتطور خطابه الشعري من ناحية أخرى.
إن سمة الحزن في شعره , لاريب , نجمت عن كراهية أو, ربما ,لأسقام الطفولة أو الشباب أو الحرمان أو العيش النمطي  والبسيط  أو لخطيئة اقترفها أو ندما remorse على عمل ارتكبه بحق من يحب ففرض عليه العزلة  ثم تلاها التهميش والمرض وأخيرا الرزايا التي تركت في نفسه متاعب جمّة .  
ولكن, لم يبق الشاعر عاطلا عن مقاومة هذه الرزايا أو يتنازل لها كأنها الأقوى, بل أدرك أن المسير في خطوات شعرية سترتقي به , حتما , لتصنع من عالمه المتشظي عالما أكثر جمالا وإن كان عالما افتراضيا. فمن حقه إذن أن يتصرف بما يملك من مخيلة شعرية ليصنع سيرته الأدبية بدلا من السقوط في الرضوخ ليكون فريسة لهيمنة الجمود والنمطية في سبل العيش. وهنا تبرز  أسئلة أخرى : هل أساء الشاعر في فهم الحياة أم هي ؟! وهل وسع عالم الشعر ليكون بديلا عن عالم الواقع ؟! وهل تتولد لدى المرء قدرات استثنائية , كالشعر مثلا , عند فقدان الأمل ؟!
تلك الخطوات كانت في معاقرة الشعر فجعله صوتا للاحتجاج, عبر قصائده, على ضرائب الحياة غير العادلة إلا أن الحياة تعود لتفرض على جسده الصلصال ثانية نمطا آخر خال من الطيبات , فسرّه أن يكون صديقا لجسده وشاعرا وليس مرتادا ,فحسب, على الصيدليات يشتري له الأقراص والحقن. إذن من المؤكد انه شاعر ذو نزعة ثورية , كتب قصة حزنه في عالم من صنع يديه.
وعن هذا الحزن , نرى الشاعر وهو  يكتب أولى القصائد في مجموعته   "الفرارة" ويعني الشاعر بها " لعبة الفرارة " Pinwheels that spin المصنوعة من الورق الملون الشائعة في الستينات من القرن الماضي والتي اختصت بطفولتنا لبساطة صناعتها المعبّرة عن بساطة الحياة الخالية من التعقيد . ثم يربط غربته في أجزاء مرآة مكسورة في تلميح على عدم مصالحته مع الحياة وتذكير بالشاعر الكبيرخورخي لويس بورخيس الذي كتب للمرايا قصائد كثيرة:
لا وجها أملكه..
لا أنتظر ..
منفيٌّ أتغرب في المدنِ
أتوزع مثل شظايا العبوه
فمتى تلتم المرآة المكسورة
وجهي
يتسكع في الحارات
يتجول في الأسواق وفي الطرقات
في إعلان أو واجهة من متجر ( الفرارة – ص 9)
في الجنوب ، وبالذات في مدينة البصرة وأثناء فصل الصيف كان الأطفال يشترون هذه الفرارات عادة في أيام عيد الفطر أو الأضحى المباركين. أما بائع الفرارات فهي شخصية فولكلورية ينتظره الأطفال أحيانا كل يوم وأحيانا يطول انتظاره حتى حلول تلك الأعياد . من الناحية العملية,  يعبّ الهواء بأجنحة الفرارة الرقيقة والصغيرة الملونة بالأحمر والأخضر والأصفر والأزرق لتدور بسرعة مثل دوران مروحة الكهرباء الحالية. أما من الناحية الفنية, فالفرارة رمز يذكّر بالطفولة البريئة والمسالمة, وهي توفر المتعة لهم في تمضية الوقت حيث لم تكن في تلك الأيام ألعابا مخصصة للأطفال كما هو الحال الآن. ولبساطة صناعتها فقد كانت تباع بعشرة فلوس فقط حيث لايمكن أن تشتري بهذه الأفلاس الآن  شيئا.
أول ما يلاحظ في هذه القصيدة صورة لنشوء صراع  خفي بين الشاعر والعالم المحيط به , ابتداء من   صورة الواقع ألمديني المجزأ الذي يجد فيه الشاعر كيانه كالمسافر الغريب  في كل مرة ينتقل فيها من مدينة إلى أخرى ومن واجهة متجر إلى إعلان  كصدى لها من خلال عبارة "لا وجها أملكه" , وصورة أخرى هي النمطية والانفرادية في عالمه القائم على الفراغ  والتشتت والتشاؤم Pessimism, إذ أن المرآة المكسورة في التقاليد الشعبية ترمز إلى النحس والشؤم , ووجهه الذي يشبهه بالخيط الذي ينأى عن ذلك العالم المشؤوم  الذي لم يتقبله ولم يتفق معه في شيء :
يتردد – كالرجع – كخيط ينقطع
ينأى ...
بين الناس
طرقت اقدام غريب , جواب
ضائع
أعتاب مدينتنا ...
فهربْ ( القصيدة نفسها)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram