لا تخضع صحافتنا، كصناعة ومنظومة متكاملة، إلى صيانة وإعادة تأهيل لمراجعة أو تقييم أدواتها في التفاعل مع التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية والخدمية.
وبفعل الأزمات المالية، وابتزاز سوق الإعلان، والعمل تحت وطأة الأزمات والتوتر، فإن صحافتنا تكافح لمواصلة ماراثون اللهاث وراء كل ذلك من دون أن يفسح لها المجال بـ"جرّ النفس" وأخذ قسط من الاسترخاء.
فالظروف التي تعيشها صحافتنا حوّلتها إلى أشبه بفريق لكرة القدم يخوض مباراة حساسة ومرهقة من دون بدلاء في دكّة الاحتياط، ولا كادر طبي يقوم بمعالجة من يتعرضون للإصابة. يضاف إلى ذلك، فإن الصحفي منّا يعمل في دائرة الخطر الذي يتهدده بشكل متواصل سواء عن رأي يكتبه، أو تغطية يقوم بها.
وخلافاً لزميليه العربي والأجنبي اللذين يعملان في ظلّ ظروف توفر لهما الحماية، والاسترخاء، والتطور، فإن الصحفي العراقي يعتبر أكثر إنتاجاً، وأشدّ مسؤولية، وأوسع اندفاعاً بالرغم من عدم التكافؤ في كل شيء.
هذه ليست مبالغة ولا انحيازاً بالمرّة. فصحفيوّنا يعيشون تحت وطأة خليط معقّد من الهواجس قوامه: الإرهاق، والتوتر، والتهديد. وهذه أسباب تمنع، إذا ما تضافرت، أيّ صحفي من تجديد قواه، وتحول دون استعادة تركيزه لمواصلة عمله بكلّ كفاءة ومهنية.
وإذا كان هذا هو حال الصحفيين، فإن حال المؤسسات الصحفية العراقية، ليس بأفضل من ذلك، وهي تجاهد للبقاء في دورة السباق والمنافسة. وتتضاعف تحديات مؤسساتنا الصحفية، وهي تكافح في ظل أزمة مالية خانقة أجبرت العديد منها على إغلاق أبوابها أو الرضوخ إلى اشتراطات المعلنين والمستثمرين.
وفي ظلّ هكذا أوضاع مهنية وأمنية ومالية حرجة تتعرض لها الصحافة العراقية، فإن مجرد استمرار أيّ مؤسسة من المؤسسات يعتبر إنجازاً بحدّ ذاته، فما بالك إذا ما حافظت على خطّها التحريري، ومسؤوليتها المهنية التي جعلتها مصدراً موثوقاً به للصحافة الأجنبية والعربية عن الحدث العراقي؟!
وبالتزامن مع الذكرى السنوية لولادة (المدى)، نستذكر كل هذه التحديات التي نحاول وتحاول صحيفتنا التغلب عليها، وتجاوزها بكلّ ما تملك من تحدٍّ وإرادة.
لكنْ كيف نجت (المدى) مما أصاب شقيقاتها مِمّن ولِدنَ بعد 2003؟ وهو سؤال يثار دائما، ويواجهنا كلما جمعنا محفل ثقافي أو صحفي داخل وخارج العراق.
الجواب يكمن بأنّ (المدى) كانت تمثّل منذ انطلاقها مشروعاً مؤسسياً لإرساء تقاليد صحافة تتوفر على ثلاثة مقوّمات: المهنية، الوطنية، الاستنارة. إلّا أنّ الوفاء لمبادئ التأسيس عادة ما يكون أصعب من التأسيس ذاته، وهذا ما حوّل صحيفة (المدى) إلى مشروع أكثر منها جريدة يوميّة تنشغل بتحضير طبخاتها اليوميّة.
لقد أسهم التأسيس الواعي في أنْ تحافظ (المدى) على تمسكها بعناصر النجاح المذكورة. فالمهنية كانت تمثل مسؤولية الالتزام بأخلاق المهنة ،والتشدّد في ترسيخها أكسبها "مصداقية" ميزتها عن بقية قريناتها.
الوطنية التي اعتمدتها (المدى) في مسيرتها، كانت تعني الانحياز إلى قضايا الوطن العراقي، وعدم الانزلاق في المطبّات الإثنوطائفية رغم الضغوطات والمغريات. وفي ظلّ الاستثمار بالتطرّف والكراهيّة والتحريض، فإن النجاة من كلّ هذه الأدران والأمراض لاتقل إنجازاً عن الالتزام والوفاء للجانب المهني.
ولم يتهيّأ لـ(المدى) الحفاظ على وطنيتها لو لم تكن مشروعاً تنويرياً صادقاً. فمنذ انطلاقتها حملت (المدى) همَّ مواجهة مشروع التجهيل والتضليل الذي تعرض له العراقيون الخارجون من معطف الديكتاتورية للتوّ.
بدأت المدى بأيامها الثقافية، وواصلت ذلك بإطلاق أُصبوحاتها التي قاومت إرهاباً كان يجوب الشوارع ويحكم قبضته على ليل بغداد. كان تنويراً منفتحاً لم ينغلق على فئة أو طبقة، لذا وجد الجميع نفسه في صفحات المدى وملاحِقها اليومية، وفي تنوّع كُتّاب أعمدتها.
كانت (المدى)، بالنسبة للكثير منّا، حلماً وليست صحيفة، ومازال الحلم مستمرّاً رغم الكوابيس والمنغّصات.
المدى.. أبعدُ مِنْ صحيفة
[post-views]
نشر في: 5 أغسطس, 2016: 09:01 م