لطفية الدليمي لوكليزيو كاتبي الفرنسي المفضل الذي شغفت بأعماله، قرأت له نصوصا وروايات تقطر نشوة وافتتانا بالطبيعة والحياة وأعمالا تعلي من شأن الإنسان والانشغالات الروحية التي دمرتها حضارة الغرب المادية الجائحة، جائزة نوبل التي تأخرت طويلا لتصل اليه -أنصفته أخيرا-
وهو الكاتب الساحر الذي لفت الانتباه الى نضارة ثقافات القبائل والجماعات البدائية وخصوصيتها عبر الكشف عن تفاصيل الحياة اليومية وطقوسها المثيرة معتبرا الوجود اليومي للبشر وسط الطبيعة حقيقة وحيدة لهم. ازدهت باريس في عيد ثقافي مع لوكليزيو الحالم فقرب السوربون ومنطقة المكتبات في السان ميشيل ومناطق الساحات الكبرى احتلت صورته صباح الجمعة 10 اكتوبر 2008ومساءه أغلفة الصحف وأكشاك الإعلانات ومداخل المحطات واجتاحت شاشات التلفزة، وظهر هو في شوارع باريس بشخصيته التي يمتزج فيها الغموض والسحر بالنظرة الحالمة والأناقة الباريسية، وعقد مؤتمرا صحافيا في دار (غاليمار) عبّر فيه بامتنان خجول وحساسية عالية عن فوزه بجائزة نوبل وقال: (اني اهتم بكتابة الروايات فحسب، الأدب هو شغفي الكبير والكتابة أهم وسيلة لمخاطبة العالم، وليس علينا ان نكثر من الكلام أمام الاعلام لأن المرء قد يقول أشياء غير دقيقة ويقول مالا يود قوله..). جان ماري غوستاف لوكليزيو المتعدد الهويات المتشابك الجذور ما بين الأب البريطاني الذي عمل طبيبا عسكريا في إفريقيا، والأم الفرنسية من جزر موريس، ظل يبحث طويلا في هذا الالتباس الذي وجد نفسه فيه، التباس الانتماء والهوية، وإحساسه بأنه غريب أينما وجد نفسه. يقول لوكليزيو في حوار مشترك مع أمين معلوف المهموم بالهويات نشرته صحيفة الاكسبريس: (لدي الجنسية الفرنسية التي اكتسبتها من أمي، والجنسية الإنجليزية التي أخذتها من والدي، كنت أشعر أنني مزدوج. وغالباً ما كان الجميع يذكرني بذلك لاسيما بعد عودتي وأنا مراهق من أفريقيا، واكتشافي ان عاداتي تختلف عن عادات سكان جنوب فرنسا. كل هذا منحني شعوراً بالغربة، وكنت دوماً أرغب بالتخلص من هذا الشعور، كنت بحاجة الى هوية محددة بشكل حاسم، ربما هذا ما جعلني أنتبه الى جذوري، إنما كنت في المقابل، هانئا ومتمكنا من اللغة الفرنسية، لم أمتلك يوماً لغتين بالقوة نفسها). أليس البحث عن هوية هو شاغل المنفيين والمهجرين في عالمنا القاسي الذي يصر على إحاطة البشر بأطر محددة تسمى الهويات؟؟ يخيل إلي ان لوكليزيو توصل في الأخير الى أن الإنسان هو جماع ما آل إليه من مكتسبات ثقافية وإرث عائلي ومتغيرات فكرية تجارب عيش في بلدان وأوضاع متغيرة وخيارات شخصية وكشوفات وأحلام متحققة او متهاوية. في منزله على ضفاف نهر ريو غراندي على الحدود الأميركية المكسيكية يقول: أنا من عائلة رحّالين، ولا استقر في منزل ثابت وسأغادر هذا المكان يوما ما. هذا الرحالة الفاتن المعاصر، حامل إرث إنساني غني، هو مزيج من ثقافات عدة متشابكة، كان لا بد له ان يؤمن بالتعددية، وكان لا بد لمثله أن ينسحر بالطقوس والعادات التي تمارسها الجماعات المهملة في أنحاء مهجورة من العالم المتحضر ويكتب عنها ويتعلم الكثير عن الأصوات الخفية التي أهملتها الحضارة الراهنة، ويمتاز إبداع لوكليزيو بعمق إنساني ورؤى شعرية وتجريب ممتع جعل من اعماله الأدبية وتحقيقاته في مجاهل الكوكب الأرضي تحفا فنية في صياغاتها وتفردها الأسلوبي، متجاوزا الرواية الجديدة الفرنسية الى الرواية المفتوحة على الشعر والوثيقة والبحث الاثنولوجي والتجديد اللغوي. احتفاء بمرحلة المراهقة التي تشكل وجدان المرء عبر الأخطاء والتجارب والمآزق والأحلام، جعل لوكليزيو من المراهقات و الفتيات الغريبات المهاجرات بطلات للعديد من قصصه ورواياته الساحرة، ففي مجموعة قصص(الربيع وفصول أخرى) وفي (صحراء) نجد ان معظم شخصياته من المراهقين والمراهقات الغرباء والمنبوذين او المستغلين طبقيا وإنسانياً، وفي روايته (أورانيا) يقوم المراهقون في (كامبوس) بإرشاد الكبار وتذكيرهم بما نسوه من نظرة الطفل الصافية للعالم، وفي هذه القرية يتعلم الجميع من الحلم والقصص والطبيعة والتنصت الى الأصوات الخفية واستعادة مسرات الطفولة التي قمعها الراشدون بالتعليم المقنن، فليس في هذا العالم الصافي مدارس تلقن العلوم والمفاهيم الموحدة ليصير البشر نسخا متماثلة، ويقوم الحلم والبراكين والطبيعة اللانهائية بدور المعلم فيقترب البشر من فهم عالمهم ويصبح الحلم في متناول الجميع في اليوتوبيا الوهمية.
قناديل لوكليزيو، تعدد الهويات ومدرسة الحلم
نشر في: 30 يناير, 2010: 05:30 م