1-2
شغف جيلنا بكولن ولسن.. أغوتنا لغته الشفافة والعميقة والساحرة، وأخذتنا مغامراته إلى أصقاع عوالم الفكر والفن والأدب. ولعلّ ما يشدنا اليوم إلى قراءة كتابه السيري (حلم غاية ما) هو الحنين. فكولن ولسن رصّع أيامنا في سبعينات القرن الماضي بالمبهر والمده
1-2
شغف جيلنا بكولن ولسن.. أغوتنا لغته الشفافة والعميقة والساحرة، وأخذتنا مغامراته إلى أصقاع عوالم الفكر والفن والأدب. ولعلّ ما يشدنا اليوم إلى قراءة كتابه السيري (حلم غاية ما) هو الحنين. فكولن ولسن رصّع أيامنا في سبعينات القرن الماضي بالمبهر والمدهش والغريب فتعرّفنا عبر كتبه على أسماء وأعمال واتجاهات فكرية وأدبية ربما ما كان بإمكاننا أن نعرفها من سواه، في تلك الفاصلة من حياتنا..
فقد كان أحد الأدلاء الذين أرشدونا إلى مناطق من الفكر والإبداع الإنسانيين حيث أغنانا عن البحث الطويل الأعمى أحياناً.. فهو المؤلف القارئ، وهذا من خصاله اللافتة؛ المؤلف الذي يعيد إنتاج ما يقرأ من خلال رؤية استكشافية تتجاوز الاعتيادي والمألوف والمرئي، ليضيف إلى المقروء ما يضيء عتماته ويغنيه ويوسع من أفق دلالاته. وشخصياً، كانت قراءاتي له تمنحني شحنة عالية من طاقة إيجابية، تعيد الثقة بنفسي وبجدوى الكتابة.
قد لا يكون كولن ولسن فيلسوفاً بقامة مارتن هيدجر وجان بول سارتر. وقد لا ينازع ألبير كامي بموهبته في مجال الإبداع الروائي. وقد نستطيع أن نؤاخذه على تورطه بالكتابة في حقول ليست له أهدرت جزءاً من طاقته الخلاقة. غير أن قسماً كبيراً مما أنجزه في النهاية ذو قيمة عالية ولا يمكن التقليل من شأنه.
رامَ صياغة الوجودية بنزع قشرة التشاؤم عن جسمها. وفي رواياته، لاسيما المبكِّرة منها، مزج علم النفس بالفلسفة ليعبِّر عن قوة الدافع الجنسي في رسم أبعاد الشخصيات ووعيها وسلوكها.. وتنقّل بين الأدب والفلسفة بدراية. وفي كل مرة كان يحرص على كتابة كتابين في هذين الحقلين المتجاورين والمتداخلين، وإصدارهما في الوقت نفسه، أو في أوقات متقاربة.
كان لديه ما يقوله دوماً، وهذه ميزة لصالحه.. لكن ذلك لم يخرجه من أطر التجريد الفكري واستلهام تجاربه الأولى في الحياة.. بقي على مسافة من السياسة ومتغيراتها وألاعيبها.. وابتعد مبكرا عن الحياة الاجتماعية.. وهذا ما أضرّ بفحوى كتاباته وطبيعة موضوعاتها فيما بعد.. هذا التعلّق، حد الاكتفاء، بعالم الكتب والموسيقى أبعده عن مشكلات الإنسان المعاصر، ومحن المجتمعات. حتى أنه يقرن تعلّقه ذاك بهما بالجنون، مثلما يقول في كتابه (الكتب في حياتي The Books in My Life): "أحسب أن هذه الشهوة الجامحة والمنفلتة تجاه الكتب والأسطوانات هي شكل مخفف من أشكال الجنون في أقل تقدير"ص80.
لم يجد ولسن، ما خلا في الأسابيع الأولى بعد صدور (اللامنتمي) أي اهتمام جدي بكتاباته في الفضاء الثقافي البريطاني. وقد أوعز هو ذلك إلى أن الجزر البريطانية بقيت معزولة عن العالم بسبب عدم تعرّضها للغزو منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأن البريطانيين لهذا السبب "كائنات مصممة بعقول بديهية اعتيادية... ولذا لم يكن وارداً في المزاج البريطاني إنتاج نسخة إنكليزية من دوستويفسكي أو غوتة أو حتى سارتر، وفي إنكلترا ليس من المعتاد طرح الأسئلة التي كتبتُ عنها في كتابي (اللامنتمي) و (الدين والمتمرد)"ص365.
من جانب آخر لم يكن كولن ولسن، من زاوية الوعي السياسي أعمى بصيرة. وكان بمقدورة تمييز معضلات البشرية الرئيسة، لاسيما في الجهة الأخرى من العالم، خارج بلدان الغرب.. وها هو يستذكر هذه الحادثة: "في جامايكا مضينا لشرب بعض المشروبات في حانة وسط البلد وعند عودتنا إلى ظهر السفينة مررنا ببعض البيوت العتيقة المصنوعة من طبقات الحديد المضلّع الصدئ وراح سكّانها السود يصرخون في وجوهنا (أيها البيض،،، عودوا لبلدكم) وهو المشهد الذي ذكّرني على الفور بما رأيته في هولينز من قبل وتعززت لدي فكرة أن العالم مقسّم بطريقة قاسية واعتباطية بين مدقعي الفقر وميسوري الحال الذين كان يمكننا آنذاك أن نعد أنفسنا منضوين في فئتهم"ص480، 481.
في كتاب (حلم غاية ما) عاد كولن ولسن إلى عوالمه الأولى التي غذّت كتاباته في مرحلة شبابه، ومنحته الشهرة. وكأنه أغلق تلك الدائرة التي بدأت بـ (اللامنتمي، والقفص الزجاجي، وضياع في سوهو، ورحلة نحو البداية؛ سيرة ذاتية ذهنية). وكان معينه الدائم إيمانه بنفسه، وشغفه بالحياة بروح متفائلة متفتحة. وقد أعجب وهو في سني يفاعته بقصيدة لإزرا باوند يقول فيها: "ما يملؤك شغفاً هو وحده الذي يبقى/ والأشياء الأخرى محض تفاهة،،،،، ما يملؤك شغفاً هو ما لن يتسرب من بين أصابعك/ ما يملؤك شغفاً هو ميراثك الحقيقي"ص289.
اللامنتمي الذي صوّره أراده راكباً المخاطرة، وباحثاً عن الارتقاء نحو آفاق جديدة، لكنه، على الأرض، تمادى في لا انتمائه وسلبيته إلى الحد الذي لم يشفع له تفاؤله في إعادة علاقته بالعالم. التفاؤل الذي كان مفتعلاً إلى حد ما، لأنه لم يتعزز بمقتضيات الواقع التاريخي الذي عاشه وخبره... كان ذلك وضع البرجوازي المعزول والغارق بأفكاره وتخيلاته ذات النزعة الفردية. وهو نموذج لايمكن تعميمه وتعميم طريقة تفكيره على نطاق واسع. لذا لم يحظ ولسن بمريدين كثر في العالم الثقافي الأنكلوسكسوني.. وعلى الرغم من هذا يظل، بمنجزه، ظاهرة ثقافية أكبر من كونها موضة عابرة. كان جاداً، ومؤمناً بموهبته، وبما يعتقد، واستمر بإخلاصه لمعظم أفكاره التي بثها في كتبه الأولى.. وكافح بضراوة وحماس ضد عوامل الإحباط واليأس والقنوط.
لم ينجح في أن يكون مناظراً أنكلوساكسونياً لصورة سارتر وكامي كما تمثّلا في السياق الثقافي الفرانكفوني. ربما بسبب تغير الأزمان وزوال الشرط التاريخي الذي أوجد المفكرَين الفرنسيَين بعد الحرب العالمية الثانية، ليبلغا قمة شهرتهما وعطائهما في عقد الخمسينات. لكن السبب الرئيس هو أن سارتر وكامي انشغلا بقضايا عصرهما السياسية، وصارا جزءاً من مفاعيل الحرب الباردة بين المعسكريين العالميين المتباريين في ذلك الوقت. وما أطلق الشهرة المدوية لولسن بعد صدور كتابه الأول (اللامنتمي The Outsider) هو الدعاية التي قدمتّه ممثلاً لما سمي بـ (الشباب الغاضب) إذ جرى استغلال الأمر لغايات تجارية من قبل المتصيدين؛ أبناء السوق.. يقول: "كانت واحدة من المشكلات التي عانيتها بعد نشر (اللامنتمي) هي الجماهيرية التافهة التي حظيت بها رغماً عني"ص343. فبعد المديح المبالغ به للكتاب في كبريات الصحف، انقلب الحال ليواجه موجة عداء كاسحة. وقد عدّوا الكتاب خدعة مارسها فتى في الرابعة والعشرين، وعليهم الآن أن يوقفوه عند حدّه، مما اضطره إلى الابتعاد عن لندن والانكفاء في الريف بعيداً عن الأضواء.. وألقت هذه الواقعة بثقلها على مكانته في دنيا الأدب والثقافة، وحتى نهاية حياته. وهذا واحد من أهم الأسباب التي حالت دون إنصافه، وتقويم أعماله بالشكل الذي يستحق.
التفاؤل والتشاؤم لا يصدران من أفكارنا فقط، كما ادّعى، بل أنهما متصلان بنمط حياتنا وتجاربنا.. وهنا يعود إلى فكرة قصدية الوعي عن هوسرل، وهي بحسب وجهة نظره: "فعل خلاق يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تكييف الوعي البشري وتعديله ومن ثم الارتقاء به إلى ما يصلح أن يكون نمطاً من المسعى الفلسفي الوجودي التفاؤلي المقترن برؤية تصوّفية منعشة"ص119. وعلى وفق هذه الفلسفة يصل ولسن، بالاستناد إلى هوسرل، إلى استنتاج فحواه أننا، نحن البشر، أحرار، من جهة، وغير عاجزين، من جهة ثانية. وبهذا يرصِّن أسس فلسفته الوجودية الجديدة.
أراد أن يعيد إلى الفلسفة نضارتها وروحها الحيّة ويجعلها أكثر صلة بالحياة.. لكن الحياة التي فهمها كانت ذات بعد فردي مثالي.. وبعدما رأى أن هيدجر، ومن بعده سارتر، أوصلا الفلسفة إلى طريق مسدود لأنهما حادا عن ظاهراتية هوسرل رأى البديل بوجودية "مغلّفة بحس رقيق من التفاؤل على العكس من النزعة العدمية التي وسمت الوجودية في نسختها الفرانكفونية"ص27 كما يقول ماثيو كونيام. وفيما بعد قاده افتتانه بمديات القدرة البشرية، إلى الحديث عن آفاق الوعي الممكنة التي بمستطاع الإنسان أن يفتتحها ليحوز قدراً هائلاً من فرح الوجود، والتخلص من حالات الكسل الذهني والبلادة التي تصيب معظم الناس. ولذا انحرف اهتمامه إلى السحر والماورائيات. هو الذي تحدّث عن توسيع عدسة منظار رؤيتنا، والترحال بحرية في أرجاء العالم العقلي مثلما صرنا ننتقل بحرية مطلقة في العالم الحسي الخارجي"ص126.