2-2من جهة ثانية ترجم ولعه الجنسي إلى فلسفة في الجنس حيث ذروة المتعة هي تحققٌ مادي لانفتاح العالم العقلي في خلال لحظات قصيرة مشعّة، رابطاً "الفعل الإيروتيكي مع كل من العناصر التصوّفية والإجرامية في النفس الإنسانية" ص35. مفصحاً عن هذه الفكرة في رواياته
2-2
من جهة ثانية ترجم ولعه الجنسي إلى فلسفة في الجنس حيث ذروة المتعة هي تحققٌ مادي لانفتاح العالم العقلي في خلال لحظات قصيرة مشعّة، رابطاً "الفعل الإيروتيكي مع كل من العناصر التصوّفية والإجرامية في النفس الإنسانية" ص35. مفصحاً عن هذه الفكرة في رواياته الأولى: (طقوس في الظلام، إله المتاهة، الحالم، وغيرها) فضلاً عن كتابه المثير للجدل؛ (أصول الدافع الجنسي).
وبلغ إيمانه بأهمية الفعل الجنسي إلى درجة تصويره، من خلال أحد أبطال رواياته (مصاصو الدماء الفضائيون Space Vampires) بأنه شكل من أشكال تبادل الطاقة الحيوية حين يُفهم "أن الرجل والمرأة عندما يتطارحان الحب فإنهما يتبادلان الطاقات بينهما، وبات (بطله) مقتنعاً إلى حد بعيد أن كل الكائنات البشرية يمكن لها أن تتقن حيلة انتقال الطاقة هذه ومتى ما تحقق هذا الأمر فإن أغلب مشاكلنا المستعصية على الحل ستختفي: الحروب، جرائم القتل، أفعال الانتحار، الأمراض العقلية لأن كل الفعاليات البشرية السلبية تقريباً تنشأ عن الإحباط الملازم لنقص الطاقة الحيوية"ص556، 557.
كان على كولن ولسن أن يكتشف منذ البدء التكافؤ بين نشوة الكتابة ووعودها، والشهوة الجنسية، وذرى المتع العالية التي يخبرها المرء، كما حصل، وإن بطريقة ناقصة، مع رومانتيكيي القرن التاسع عشر بمعونة التخييل. فقد كانت تلك تجارب خاطفة سرعان ما تبخرت ليحل محلها إحساس بالعدمية قادهم إلى الانتحار. وأدرك أن المطلوب هو الخروج من محدودية الوعي البشري إلى آفاقها الشاسعة لتتغير النظرة إلى الحياة، ويتم القبض على فرح الوجود. وفضلاً عن لحظات المسرّة السامقة التي ينالها المرء من طريق الشعر والموسيقى يبقى لديه أمر آخر هو، وبحسب منظور ولسن: "قدرة هذه الكائنات (الإنسانية) على بلوغ قمة النشوة الجنسية في غياب وجود أي مؤثر جنسي، وليس ثمة كائن غير الإنسان من يستطيع الإتيان بهذا الفعل عن طريق تخليق أنماط معقدة من الاستجابات العقلية بوساطة فعل الخيال وحده، وبذات الطريقة ليس ثمة من سببٍ يمنع الإنسان من تعلّم إزاحة حُجُب اللامبالاة والتعوّد البليد التي تحجب عنه الحقيقة" ص311، 312.
تلبّست فلسفته حول اللامنتمي بمسحة كثيفة من الرومانتيكية، وهذا ما وعاه في أواخر حياته، وعدّه نقيصة. وحدد أبطال رواياته واختارهم من اللامنتمين والرومانسيين والمثاليين الرؤيويين في المدينة الحديثة.. يقول: "ورأيت أن المدينة الحديثة ـ من خلال آليتها الرتيبة ـ تخلق لا منتمين أكثر من أي وقت سابق وتعجّ بالأشخاص الذين يعانون إشكالية وجودية رهيبة"ص95. وفي مرة، مع الثورة الجنسية التي عمّت الغرب في عقد الستينات وصف عالمنا بأنه يقف على برميل بارود جنسي. وبذا غدت الرغبة الجنسية، والجريمة المنشبكة مع الدافع الجنسي، ثيمتان أساسيتان في عمله الروائي.. وعلى حد تعبيره "يبدو أن المجتمع الحديث يخلق حافزاً جنسياً ينمو ويتكاثر كالطفح الجلدي ـ لأسباب تجارية محضة ـ ومن ثم يكون المتوقع حتماً زيادة رهيبة في معدلات الجرائم المرتبطة بالجنس"ص96. وفي ضمن مؤشرات مرحلته تلك وجد أن الدين يتراجع أمام المادية العقلانية. وهذه موضوعة أثيرة أخرى في إطار اهتماماته الفكرية والأدبية. وبطبيعة الحال هو لم يُعنَ بالدين الطقوسي، وإنما بما يختزن من طاقة روحية، وبعدٍ كوني.
ينتمي كولن ولسن للنزعة المثالية الذاتية في الفلسفة، معوِّلاً على الجانب الروحي في الإنسان، وعاداً الفكرة التي تقول أن الإنسان وحيد في الكون هراءً سخيفاً ولا معنى لها، وأن اللامنتمي الذي أراده هو "أن يكون حجة لتعضيد الحس الديني المبشر بالخير الكوني في مقابل النزعة الإنسانية التي تقود إلى التخاذل والسوداوية" ص325. وبالتأكيد فإن مثل هذه النزعة تعتمد الحدس من غير أساس منطقي في الواقع.
عوّل كولن ولسن على ممكنات فن الرواية، وعلى الشحنة الهائلة للخيال التي أطلقها. فالرواية بحسب وجهة نظره هي التي أحدثت الانعطافة العظيمة التي مهدت للخروج من ظلمات القرون الوسطى في أوروبا إلى أنوار العصر الحديث، ومن ثم ولوج عصر العلوم والتكنولوجيا. عادّاً الرواية "الاختراع البشري الأكثر أهمية بعد اختراع العجلة"ص531. فبرأيه أن تأثير الرواية فاق تأثير دارون وماركس وفرويد على الرغم من التأثير العظيم لهؤلاء على الحضارة الأوروبية. والرواية هي التي تساعد في ازدهار الوعي الإنساني إذ يطمح الروائي أن يصبح "مرآة متسعة الزاوية أو الأصح عدسة متسعة الزاوية إذا شئنا الدقة التصويرية، وإن الهدف من وراء هذه العدسة ليس إظهار العالم بصدق أكبر بل جعل القارئ واعياً بتجربته"ص82. هنا تغدو الرواية "أداة مثل الميكروسكوب أو التلسكوب تساعدنا في زيادة قوّة ملكاتنا المحكومة بمحدوديات فيزيائية طبيعية"ص84. وفي رواياته خلق شخصيات أرادها معبِّرة عن أفكاره تلك.
يبدأ كولن ولسن سيرته الذاتية (حلم غاية ما) من لحظة مفصلية حاسمة من حياته، وهي عزمه على الانتحار مع بلوغه السادسة عشرة من عمره. وكأنه بهذا يؤشر لحظة ولادته الوجودية إذ شعر بأنه مسكون بكائنين متمايزين؛ أحمق يحثه على قتل نفسه لأن الحياة أكذوبة فيدير ظهره له، وحقيقي، يعبر به ذلك المأزق إلى برّ الخلاص.. يقول: "وفي تلك اللحظة الغرائبية كان في وسعي أن أستشعر الغنى السحري العميق والهائل الذي يحوزه العالم الحقيقي مما لم يكن بوسعي رؤيته أو تحسسه من قبل، ثم امتد ذلك الإحساس الجارف ليأخذني معه بعيداً نحو آفاق لم أعهدها أبداً من قبل"ص168. وسيفاجئه بزوغ ذلك الإحساس وهو واقف في وسط مكتبة بيرمنغهام عارفاً ما الذي يبغي أن يفعله في حياته القادمة.
يكتب كولن ولسن سيرته عن سابق نيّة وتصميم، لا كما حصل مع سوان بطل رواية (البحث عن الزمن المفقود) لبروست مستحثَّاً بنكهة كعك المادلين المغموس في الشاي طعماً ورائحة تعيده إلى المحتجب والمنسي من ذكرياته، وتفتح له أبواب ماضيه التي أغلقها وراءه.. مع كولن ولسن يختلف الأمر، فقد ظلت تفاصيل حياته حيّة معه يتعاطاها يومياً عاجناً إياها بفكره وفلسفته، أو يزجّها متبّلة بالخيال الإبداعي في رواياته. بالرغم من تطرقة، وهو يتحدث عن يقظة الوعي، وملامسة تخوم الحقيقة، إلى بروست ليصوغ عبارة (لحظات التوهج البروستية)، والتي عنت عنده الكفّ: "عن اعتبار ذاتك كائناً بائساً شقياً خُلق في لحظة صدفة عبثية وينتظر الفناء المحتّم، ومضيت في نحت مفردة لهذه الملكة العقلية وأسميتها فعلاً ( الملكة X, Faclty, X ) التي ستحتل مركز الثقل في معظم كتاباتي اللاحقة"ص449.
الثلث الأول من حياته هو الأهم لأنه حافل بالإثارة والمغامرات واللااستقرار وقصص الحب والعلاقات والأسفار والفقر وخطوات النجاح الأولى، وسلسلة إحباطات مريعة، ولذا فإن كتاب سيرته يتحرى في تلك السنوات أكثر مما يفعل مع ما تلاها. وهي أحداث تنبئ وتؤطر عمّا سيكون عليه الفتى كولن، والاتجاه الذي ستتخذه حياته في قابل السنوات.
بعد أن يطرده أبوه من البيت لأنه قرر امتهان الكتابة، ولا يود أن ينخرط بأي عملٍ آخر، سيضطر إلى الانتقال بين أشغال عديدة في مصانع مختلفة.. سينام في أماكن عامة داخل حقيبة نوم، وسيعاشر بضع فتيات، ويؤم المكتبة البريطانية على مدار ساعات طويلة في اليوم الواحد، وسيغادر إنكلترا مؤقتاً إلى فرنسا لبضعة أسابيع، ومن ثمّ سيرافق مجموعة الفوضويين في لندن، في حي سوهو تحديداً.. وسينعت النظرية السياسية لأولئك الفوضويين بالسخف لكنه سيعجب بأهدافهم المعلنة عن "خلق مجتمع من الأرواح الحرّة التي يحنو بعضها على البعض الآخر بكرم روح وسخاء"ص253. وستكون القفزة الدراماتيكية لحياته مع صدور كتاب (اللامنتمي) الذي سيخلق له الشهرة الواسعة، وعداء كثر من النقاد في آنٍ معاً.
دعا ولسن إلى خوض التجربة البشرية الاستثنائية، متوسلاً بالاسترخاء وتوسيع بؤرة الوعي وقدرة الخيال الخلاق واحتياز البهجة الفائقة والحرية والسعادة. وتلك صورة اللامنتمي التي تهيأت له. وبقيت حلوله في نطاق المسعى الذاتي؛ ذلك الذي تطيح به شروط الواقع وقسوته ومعوقاته التي لا تحصى. بترجمة هذا الكتاب إلى العربية، والمتضمن لسيرة ولسن (حلم غاية ما) وفصول من بعض كتبه الأخرى، وحوار معه، ومقالات عنه، أعادت الروائية لطفية الدليمي الاعتبار لواحد من أكثر كتّاب النصف الثاني من القرن العشرين إشكالية وغزارة في الإنتاج، ليستعيده قرّاؤه القدامى في فضائنا الثقافي ثانية، وليتعرف عليه قراء الجيل الجديد.
*(حلم غاية ما: سيرة ذاتية) كولن ولسن.. ترجمة: لطفية الدليمي.. دار المدى للإعلام والثقافة والفنون.. بيروت.. ط1/ 2015.