2-3
مجاورة منطقة الكرادة داخل إلى مركز العاصمة بغداد، إلى كورنيش نهر دجلة، جعلها تحتل هذه المكانة الخاصة، ومنذ عهود قديمة، هنا أسس الإنكليز نواديهم الأولى، نادي العلوية مثلاً، الواقع في ساحة الأندلس، والذي هو نادٍ قديم مثل النادي القريب منه، نادي الهندية. الاثنان بناهما الإنكليز الذين أدخلوا تقاليد النوادي في سنوات العشرينات، الدخول إلى هذين النادين والحصول على عضويتهما يتطلب شروطاً سقوفها عالية، انتماءً للطبقة الراقية في حالة الأول، وأن يكون المرء مسيحياً في حالة الثاني، بعض السفارات ما تزال موجودة في منطقة الكرادة، أشهرها السفارة الفرنسية، في سنوات السبعينات مثلاً، أيام دراستي الجامعية في بغداد، كانت منطقة الكرادة هي مكان جولاتنا وسهراتنا، مطاعم وبارات، نوادٍ جمعيات أدبية وفنية انتشرت هناك، نادي حديقة اتحاد الأدباء، وحديقة جمعية الموسيقيين مثلاً، الفنادق التي أقمت فيها في في جميع رحلاتي الأخيرة، تقع في الكرادة، أغلب سهراتي الليلية قضيتها مع الأصدقاء، في نادي الأدباء، أو في نادي الصيادلة او المهندسين أو الأطباء (النوادي الثلاثة الأخيرة تقع مباشرة على ضفاف نهر دجلة)، شباب قادمون من كل نواحي بغداد يأتون لقضاء سهراتهم هناك.
في زيارتي العام الماضي، وعندما كان حظر التجوال ما يزال سارياً في بغداد يبدأ عند الساعة الثانية عشرة، تأسست نوادي ومقاه وبارات فتحت أبوابها أولاً في هذا الوقت، يجلس في داخلها الشباب حتى الساعة الخامسة فجراً، ساعة رفع حظر التجول، صحيح أن الكرادة تعيش فيها أغلبية شيعية ومسيحية، إلا أنها لا تخلو من عدد من العائلات السنية التي تقطن هناك أيضاً ، كما أن زوارها شباب خليط من كل القوميات والأديان، في المطاعم والنوادي تخدم عاملات شابات، ظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة في بغداد والبصرة، رغم اعتراض المحافظين من رجال الدين. بكلمة واحدة: الكرادة، وكرادة داخل بالذات هي بمثابة الفردوس الذي يقضي فيه الشباب وقتهم، طبعاً يتضاعف هذا العدد في شهر رمضان، خاصة بعد ساعات الفطور، حيث تأتي إلى المولات عائلات كاملة بعد ساعة إعلان الإفطار، تجلس في المطاعم هناك تأكل وتسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، تلك هي عادات قديمة لشهر رمضان، خاصة الطبقة الوسطى، تقضي أوقاتها ساهرة ليلاً، وحتى ساعات الفجر، وقت تناول وجبة السحور، قبل أن تبدأ ساعات الصيام مع شروق الشمس، في ليلة السبت على الأحد يوم 2 يوليو/تموز الماضي، لم تفعل العائلات تلك، غير أنها أسلمت نفسها إلى حواسها، ومارست طقوسها التي اعتادت عليها منذ أجيال، غير عابئة بتهديد الإرهاب، مديرة ظهرها للمفخخات والقتل، من أين لها أن تدري أن سفاحاً باسم الإسلام الوهابي الذي تربى عليه، هيأ صهريجاً محملاً بما لا يعلم حتى ربه به، بمادة سي فور، انتظر طوال النهار، حتى تغيب الشمس ويبدأ الناس بالاحتفال بعشاء الإفطار، ليسير بحمولته، هو المفخخ بالكره، ويفجرها وسط المجمع التجاري الكبير، لا لكي يقتل أكبر عدد ممكن من الشيعة وحسب (كما كان يظن) بل ليضرب مركزاً للراحة واللعب، مكاناً للاحتفاء بالحياة والجمال، مركزاً يجمع الناس بمختلف دياناتهم، من كل الأعمار (أطفالاً وشباباً وشيوخاً)، ومن كل جنس.
أمس باريس مسرح باتاكلان، مركز الفنون والسهر، واليوم حي الكرادة داخل في بغداد. لقد وصلت رسالة الارهاب. لا مكان للحياة في عالمنا، لا يهم، سواء أكنا في اوروبا أم في العراق، سواء أكنا في باريس أم في بغداد.
يُنشر بالتزامن مع نشره في صحيفة نويرتزوريشير تاتز الألمانية
السبت الدامي لبغداد
[post-views]
نشر في: 9 أغسطس, 2016: 09:01 م