هذا الفلم هو آخر عمل مكتمل للمخرج الشيلي المتميّز والخصب راوول رويز ، الذي توفي في آب العام الماضي عن عمر السبعين . كان المقصود ، في الأصل ، أن يكون الفلم مسلسلاً تلفزيونياً قصيراً ، فتمّت صياغته بنحو جريء على هيئة حلم طويل في جزءين ، مدته أكثـر من أ
هذا الفلم هو آخر عمل مكتمل للمخرج الشيلي المتميّز والخصب راوول رويز ، الذي توفي في آب العام الماضي عن عمر السبعين . كان المقصود ، في الأصل ، أن يكون الفلم مسلسلاً تلفزيونياً قصيراً ، فتمّت صياغته بنحو جريء على هيئة حلم طويل في جزءين ، مدته أكثـر من أربع ساعات ونصف الساعة. "غوامض لشبونة" ، فلم غريب على نحو قوي وآسر ، ميلودراما معقدة عن السرّية ، القدر والذاكرة ، التي يظهر فيها كل أبطالها في حالة من التنويم المغناطيسي وعلى حافة الدخول في عالم ماغريتي [ نسبة الى الرسام ماغريت ] بديل . كلمة "غوامض" هي بالضبط ملائمة .
نقل كاتب سيناريو رويز ، كارلوس سابوغا ، الفلم عن رواية "ميستريوس لسباو" ( 1854 ) ، لمؤلفها البرتغالي كاميلو كاستللو برانكو ، التي تدور أحداثها في منعطف القرن التاسع عشر . قصة برانكو حكاية مغلفة بالمصادفات ، النسب الارستقراطي المخفي ، التراث المدهش ، الهوى ، الهوس الجنسي وقتال المبارزات . إنها أقرب الى شيء من هيغو أو ديكنز ؛ واحدة من الشخصيات المذهلة يقارن وضعه أيضا برواية لآن رادكليف . مع ذلك ، الإسلوب المميز في صنع فلم رويز مختلف تماما عن الطريقة الرشيقة ، التقليدية لدراما العصور القديمة الانكلو- هوليوودية . إنه شكل يكون الوجود فيه معطلا على نحو عديم الوزن تقريبا في الذاكرة ــ لا يمكنني التفكير بصانع فلم وجد أسلوبا يقارب ، على نحو مثير جدا ، صيغة الفعل الماضي من (( قال )) ، (( ذهبت )) الى آخره ــ و " غوامض لشبونة " يستحق المقارنة مع عمل رويز البارع ، في عام 1999 ، المقتبس عن بروست ، "الزمن المستعاد" .
تعيش الشخصيات حياتها في عالم يتمايل ، على نحو غير متلاحم ، بين الحلم واليقظة ، أو مثل شخصيات من مسرح دمى بُعِثت فيها الحياة بمعجزة ، مع تكلّف هو في الغالب غريب وعجيب ، لكنه ظاهر في محتوى مميّز ، حيث يتحوّل المضحك والساخر ، بطريقة ما ، الى شيء آخر : شيء يعبّر عن الشقاء والبؤس المطلق لحيوات الشخصيات ، عن الاهتياج والتلوّي في الأشراك الوجودية التي نصبها لها أسلافها.
في محور القصة بدرو دي سيلفا ، شاب يتيم في لشبونة ، يؤدي دوره صبياً خواو لويس ارّايس ، ودوره كشاب ، افونسو بيمنتال . يتربى هذا الفتى في كَنَف مدير الميتم ، وهو كاهن داهية ، ذو قسوة ملغزة وحكمة كتوم ، أدى دوره بشكل مدهش ادريانو لوز . يكشف الأب دينيس لبدرو ، شيئا فشيئا ، قصة أصوله غير الاعتايدية . ويتاح للفتى التعرّف على أمه آنجيلا ( ماريا خواو باستوس ) ، وقصة زواجها التعس من الرجل الهائج وغير المخلص ، كونت سانتا باربارا ( البانو خيرونيمو ) ، وقصة التاجر العنيف سيئ السمعة البرتو ماغالايس ( ريكاردو بيريرا ) ، الذي يدافع عن شرفها . في النصف الأول من الفلم ، يبوح الأب دينيس أكثر عن سيرة حياته التي تصدّرت دخوله سلك الكهنوت : سيد في الخداع ، فاجر ، جندي ، رجل يرتاد الأوساط الإجتماعية الراقية ، ومثل بدرو ، طفل مهجور .
حتى وصف العمل بـ (( الشبيه بالحلم )) هو غير ملائم تماما : يبقي رويز على التوكيدات الطبيعية للجو العام ، على التوجيه المعتاد فيما يتعلق بالكيفية التي ينبغي بها أن نحس بكل شيء يتحرك عبْر الشاشة . هو ومصوره اندريه زانكووسكي يستنبطان ، على نحو مدهش ، أوضاعا غير مألوفة للكاميرا ، وتكنيكهما الفائق الأكثر وضوحا للعيان تجلى ببساطة في النزوع الى استخدام الكثير من لقطات الكلوز- آب . هناك بعض الشخصيات التي تشاهَد في لقطات بعيدة ، تقريبا كل الوقت : نحن لا نعرف بالضبط ماذا يشبهون.
في واحدة من اللحظات المتميّزة في بداية الفلم ، يصغي بدرو الى حديث طفل يسير بجانبه ــ ترافقهما الكاميرا ، من اليمين الى اليسار ــ ثم يومئ الصبي بصوت خال من التعبير الى رجل يعرّفه بأنه أبوه ، الذي كان في تلك اللحظة يعلق على المشنقة في ساحة عامة ، أمام جمهرة لا مبالية من الناس . هل ينبغي أن نحسّ بالانشداه ؟ بالرعب ؟ بالشفقة ؟ أو هل هذا هو ببساطة جزء آخر من اللغز المتشابك ، المبهم والناقص ، الذي يعبّر عن حياة الشاب المسكين بدرو ؟
ثمة العديد من اللمسات الغريبة في الفلم . يُلمَح عراك صاخب في الشارع بشكل غير كامل ، من خلف عربة الأب دينيس ، حيث يظهر القس نفسه بصورة جانبية ، محدقاً على نحو يقظ الى الأمام مباشرة . لدى رويز الكثيرمن "حزمة" مشاهد ، فيها النبلاء ذوو الشعور المستعارة ومساحيق الوجه يثرثرون وينهمكون في النميمة ويكيدون : إنها مصدر لدراما عهد ، لكن أشياء غريبة تحدث هنا . في واحدة من اللقطات المتتابعة ، سيدة تشهق فيغمى عليها ساقطة على الأرض ، حدث يحث على صمت مضطرب بين اي جمع آخر من الناس ، لكن هنا ، الناس المحيطون بها يضحكون بانسجام غريب وفجائية وكأنما على مزحة ما . في مشهد آخر ، تنسلّ الشخصيات ، المصوَّرة من لقطة عالية مائلة ، بنعومة واضحة وعلى نحو مضحك ، كما لو انهم يسيرون على مزلجة ، أو يشبهون حقا شخصيات مقتطعة من مسرح دمى بدرو .
يمكن ان يكون لرويز شيء من العلاقة الهجائية مع أدواته ،بحيث إنه أخذ تعقيدها المنافي للعقل وبنىت منها لحظات تأمل في عشوائية القدر والعجز عن معرفة الماضي . أو ربما أنه فقط وجد فيها قاعدة مثالية لعرض بهيّ ، ساحر ، وبدفء إنساني كبير . في كلتا الحالين ، تقدم سينما رويز ، لاولئك ذوي الأذهان المتفتحة ، متعة فائقة وفريدة.
عن: صحيفة الغارديان