في صبيحة 9 آب 2015 استيقض العراقيون على قرارات وصفت حينها بالثورية، نشرها رئيس الوزراء حيدر العبادي على صفحته بالفيسبوك. تلاقفت وسائل إعلامنا "بوست" العبادي في نشراتها الصباحية من دون توضيحات، ولا زيادة أو نقصان. استغرق الأمر عدة ساعات لكي يطلّ صاحب المفاجأة على شعبه المصدوم، ويوضح لهم الملابسات، والأهداف. عندها انطلقت جيوش المحللين السياسيين للنبش بنوايا العبادي، واستشراف ما وراءها، كعادتهم في تحميل الأشياء أكثر من حجمها.
لقد قرّر رئيس الوزراء العالق آنذاك وسط حقل ألغام، ركوب موجبة التظاهرات، التي انطلقت شرارتها في تموز من البصرة ووصلت الى بغداد، وتوجيه أوجع ضربة لخصومه الكبار. كان قرار إبعاد نواب رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الوزراء، يحتل مقدمة ما بات يعرف لاحقاً بحزمة الإصلاح الأولى.
الرئيس الذي طالت مراوغته لخصومه من الساسة والشارع الغاضب، قرّر أن يُسجل أول أهدافه، بخلط الأوراق وإشغال الجميع عن مراقبته وترصّد أخطائه. نجح رئيس الوزراء بحرف مسار التظاهرات من الاحتجاج على تردّي الخدمات، ومقتل أحد ناشطي البصرة، إلى التضامن معه والوقوف خلفه بوصفه المحارب الوحيد لـ"رموز الفساد والمحاصصة". أصبح الرجل البطل والمنقذ المنتظر في ليلة وضحاها.
حينها، لم يك المتظاهر، الذي بدا يشعر بنشوة الانتصار، قادراً على مراقبة البنود الأخرى في الحزمة الإصلاحية. فكيف يتأكد من قرار تقليص الحمايات، أو إلغاء المخصصات والنثريات؟ او كيف له ان يطّلع على حجم الترشيق في المناصب العليا، وكلّ المؤشرات تؤكد أنها زوبعة في فنجان، لأنها ستصطدم بجدار المحاصصة الصلب.
لذلك اكتفى المتظاهر المنتصر والمنتشي بالتهليل لإبعاد المالكي والنجيفي وعلاوي من رئاسة الجمهورية، والمطلك والأعرجي من رئاسة الوزراء، والإعراض عن التفكير بواقعية وإمكانية تطبيق بنود الإصلاح الأُخرى. لقد منح إبعاد الـ 6 الكبار نصف انتصار للعبادي والمتظاهرين، لأن الطرفين كانوا على معرفة بعجزهم عن تحقيق نصر كامل.
وبمجرد مرور 48 ساعة فقط، تحوّل البوست الفيسبوكي المكوّن من 8 بنود، الى "حزمة إصلاحات" تضم 25 بنداً موزعة على 4 محاور سياسية وإدارية، ومالية، واقتصادية، وخدمية. لقد قامت البيروقراطية الحكومية بتحويل الانفعال الى "حزمة"، وقررت إلقاء أول كرة للنار في حضن مجلس النواب لإشغاله وإحراجه، والجلوس على تلّ الفرجة.
بدوره، لم يقف البرلمان، المأخوذ بتظاهرات الشارع وجُرأة العبادي، متفرجاً. فقرر إشهار ورقة إصلاحات مكوّنة من 16 بنداً تُلزم الحكومة تطبيقها خلال فترة لا تتجاوز الثلاثين يوماً.
وسط أجواء التفاؤل آنذاك، كانت غمامة التشاؤم لا تفارق الكثير منّا. وقتها كنا نقول إنّ الإصلاح لن يتحقق بالنوايا الطيبة. فللإصلاحات اشتراطات موضوعية وذاتية، وإنّ نجاحها متوقّف على توفر تلك الاشتراطات. لا بل تضافرها.
كان رهان الإصلاح وقتها يرتكز على تناغم مثلث: الشارع – المرجعية – العبادي، في دفع عجلة الاصلاحات ، وتحويلها الى برنامج جادٍّ وحقيقيٍّ. حينها كنا نقول إن تأييد الطيف السياسي لايكفي. فهذه الأطراف أتقنت الانحاء أمام الريح، وأنّ الخشية تكمن بعد مرور العاصفة. وهذا ما حصل بالفعل.
فمع مرور الأيام أخذ مثلث الإصلاح بالاهتزاز، عندما حوّلت الأطراف السياسية "الشارع" إلى ساحة لتصفية الحسابات. وانتهى الأمر بفرض أحد الأطراف سطوته على الحراك الشعبي، وحوّله إلى أداة في صراعه مع الخصوم. عندها انهار الضلع الاول في المعادلة.
في هذا الوقت بالتحديد، تخلّص العبادي من الخصوم الكبار، وشقّ الشارع المتظاهر، وقضى على أخطر كابوسين كانا يؤرّقان حكومته.
لاحقا تسببت متاهة الإصلاحات الحكومية، وانخراط الأطراف السياسية في سباق محموم لحماية مكتسباتها بعد الترشيق الوزاري، بتحييد أهم أضلاع الإصلاح، وهي المرجعية التي قررت الامتناع عن الخوض بالشأن السياسي في شباط الماضي.
الآن وبعد مرور عام كامل على إطلاق الإصلاحات، يجد العبادي نفسه وحيداً يندب حلماً بدّدته أخطاؤه، فلا مرجعية تدعم، ولا شارع يؤيّد. اليوم بدل الانشغال بإعداد نسخة منقّحة من الإصلاحات، يحرص العبادي على تحقيق النصاب لكابينته ومنع عقدها من الانفراط.
قصّة إصلاحات مُحبطة
[post-views]
نشر في: 10 أغسطس, 2016: 06:16 ص