التقيتها أثناء دراستي في القسم الروسي بجامعة باريس عام 1967 . كانت كاترين تكتب بحثاً عن يسينين , وقد أدهشتني بعمق معرفتها للّغة الروسية آنذاك . وهكذا تطورت اللقاءات في أجواء ذلك القسم الذي كان بإدارة البروفيسورة صوفي لافيت مشرفتي العلمية , وظهور نجوم
التقيتها أثناء دراستي في القسم الروسي بجامعة باريس عام 1967 . كانت كاترين تكتب بحثاً عن يسينين , وقد أدهشتني بعمق معرفتها للّغة الروسية آنذاك . وهكذا تطورت اللقاءات في أجواء ذلك القسم الذي كان بإدارة البروفيسورة صوفي لافيت مشرفتي العلمية , وظهور نجوم فرنسية ساطعة متخصصة آنذاك في الأدب الروسي مثل نيكيتا ستروفه وغيره...
واستمر الحوار مع كاترين أثناء اللقاءات في النشاطات الثقافية العديدة والمتنوعة للجالية الروسية في باريس , والذين كانوا يصرون على تسميتها بالروسية يكاترينا وليس بالفرنسية كاترين , بل وكانوا يستخدمون – بعض الأحيان - اسم الدلع بالروسية , اي كاتيا , ليس إلا . انقطع هذا التواصل عام 1971 عندما انهيت دراستي في باريس وعودتي الى بغداد . بعد عدة سنوات ( في أواسط السبعينات ) تسلمت فجأة رسالة من كاترين تقول فيها انها ستكون في فندق ميليا منصور ببغداد بصفة مترجم فوري في مؤتمر عالمي حول الاتصالات السلكية واللاسلكية . والتقينا في بغداد مرة اخرى , وعرفت منها أخبارها , وكيف أنها أصبحت تعمل في منظمة الأمم المتحدة مترجمة فورية , حيث تجلس في كابينة صغيرة وتضع السماعات على أذنيها وتستمع الى كلمات الوفود وتترجمها الى لغة اخرى فوراً ( تعمل في إطار لغات ثلاث هي الفرنسية والانكليزية والروسية ). دخلت الى فندق ميليا منصور وزرت قاعة المؤتمر وشاهدت كابينات المترجمين الفوريين , ولاحظت كيف يعملون بتوتر شديد , وكيف يغيرون المترجم بعد كل نصف ساعة من العمل , وتعرفت على الوثائق التي كانت بحوزتهم وهي تضم معظم المصطلحات الخاصة بموضوع المؤتمر وبخمس لغات , والتي اعدّتها لجنة علمية خاصة في الأمم المتحدة قبل انعقاد المؤتمر بفترة , وتم توزيعها على المترجمين الفوريين في حينها لتسهيل مهمة الترجمة الفورية , وعرفت ايضا ان المترجم الفوري يحصل على بطاقة الطائرة والسكن في نفس الفندق مجاناً , ويتسلم 250 دولاراً يومياً أجوراً لعمله . عادت كاترين بعد لقاء بغداد - الذي استمر ثلاثة أيام – الى مقر عملها في جنيف , ولم نلتق طوال اكثر من أربعين سنة . وفجأة تسلمت منها رسالة الكترونية قبل ايام ( تموز / يوليو 2016) , تقول فيها انها ستمر بموسكو لمدة يومين , وهكذا التقينا مرة اخرى . وسنحت الفرصة لي أخيراً ان أتحدث معها عن تفاصيل حياتها المهنية باعتبارها مترجمة فورية في الأمم المتحدة ترتبط بثلاث لغات , وأخبرتها بأني أود الكتابة عن مسيرة حياتها , خصوصاً وأني عملت طوال حياتي في مجال اللغات , فوافقت بكل سرور.
حدثتني كاترين أنها كانت تعشق لغتها الفرنسية , ثم بدأت تدرس اللغة الانكليزية في المدرسة الابتدائية , وعندما كان يجب ان تختار لغة اجنبية ثانية , اختارت اللغة الروسية , ولكن أهلها اختاروا لها اللغة الإسبانية لأنهم كانوا يعتقدون انها أسهل لها وان الروسية لغة صعبة جداً , ولكنها أصرت على الروسية , بل وأضربت عن الطعام لثلاثة أيام احتجاجاً , وهكذا وافق أهلها على اختيارها . ضحكت انا وسألتها لماذا كل هذا العناد , فقالت لأنها قررت ان تكون مترجمة , ولما شاهدت ان معظم التلاميذ اختاروا اللغة الأسهل , فقررت ان تختار اللغة الأصعب كي تكون المنافسة لاحقاً أسهل في مجال الترجمة . عندما لاحظ أهلها عشقها للغات وانها تريد ان تكون مترجمة , أخذوا يساندونها , وهكذا ارسلوها في العطلة الصيفية الى لندن لقضاء شهرين في بيت عائلة انكليزية يعرفونها , واستمرت كاترين بالسفر الى لندن كل صيف وتطوير لغتها الانكليزية اثناء دراستها في المدرسة , واستمرت كذلك بدراسة اللغة الروسية ايضا في المدرسة وعند معلمة خصوصية من اللاجئين الروس في باريس . عندما انهت كاترين المدرسة , كانت تتقن بشكل جيد جدا لغتين اجنبيتين , فالتحقت بالقسم الروسي في جامعة باريس , وتخرجت هناك متخصصة باللغة الروسية وآدابها . وجدت فرصة عمل بالصدفة في باريس مع وفد روسي كان يصور فلماً سينمائياً عن حياة الكاتب الروسي اليكسي تولستوي , الذي عاش فترة في الغرب , ونجحت نجاحاً باهراً في عملها مترجمة , وهكذا فهمت انها تستطيع تحقيق حلمها للعمل في مجال الترجمة , فالتحقت بمعهد الترجمة في باريس لتطوير مهاراتها الترجمية . وهذا المعهد يعد من اشهر معاهد الترجمة في العالم , اذ يقبل فقط طلبة يتقنون لغتين اجنبيتين , ويُجري امتحاناً صعباً لكل الراغبين بالدراسة في اللغتين اضافة الى امتحان في اللغة الفرنسية . وهكذا التحقت كاترين في هذا المعهد العتيد ودرست سنتين فيه ونجحت في صقل موهبتها وأصبحت جاهزة لتحقيق حلمها والعمل في مجال الترجمة . بدأت تترجم تحريرياً , ولكنها انتقلت الى الترجمة الشفهية بالتدريج . سألتها عن السبب في هذا الانتقال , فقالت انها كانت تستيقظ من النوم عدة مرات يومياً لأنها كانت ترى في منامها أنها لم تترجم الكلمة تلك كما يجب وأنها كان من الأفضل ان تضع كلمة اخرى بدلاً عنها أكثر دقة , وتنسى تلك الكلمة في الصباح , ولهذا وضعت دفتراً وقلماً قرب سرير النوم وكانت تكتب الكلمة البديلة , ولكنها لم تقدر ان تفهم ما كتبته في الصباح , وهكذا قررت الانتقال الى الترجمة الشفهية للتخلص من هذه الكوابيس . واضافت كاترين , انها فهمت الآن أن قرارها كان صائباً , وانها خلقت للترجمة الشفهية , ووصلت الى قمتها – وهي الترجمة الفورية . سألتها :ألا تجدين صعوبة في تنوّع المواضيع عند الترجمة الفورية , فقالت :نعم بالطبع ولكنني الآن أمتلك تجربة كبيرة تساعدني على تذليل الصعوبات . قلت لها :أظن ان الترجمة التقنية هي الأصعب , فقالت لا , بل الترجمة السياسية . تعجبت انا من ذلك القول , فأجابت ان الترجمة التقنية محددة ومحدودة , ويمكن الاستفسار عن مفرداتها عند الضرورة, اما الترجمة السياسية , فإنها تعتمد على مفردات غير محددة للوصول الى أهداف متباينة بأسلوب غير مباشر , وغالباً ما تعتمد على الضبابية , وقالت انها كانت شاهدة لعدة مواقف في مجلس الأمن تم إيقاف الجلسات فيه نتيجة اعتراضات على عمل المترجمين الفوريين . سألتها اخيرا عن رواتبهم هناك وهل هي مجزية وتتناسب مع هذا العمل الفكري المتوتر, فقالت انهم يتسلمون أجوراً عن كل يوم عمل مقدارها 650 دولاراً , وان يوم العمل هو 6 ساعات ( ثلاث ساعات صباحا وثلاث ساعات بعد الظهر, والاستراحة بعد كل نصف ساعة عمل ) , وانهم لا يتسلمون اي شيء عن اليوم الذي لا عمل فيه . سألتها – وهل انت راضية عن هذه الأجور وشروطها , فقالت نعم , وكذلك بقية الزملاء . قلت لها ألم تتعبي من مسيرتك الطويلة في هذه المهنة الصعبة ؟ فضحكت وقالت – ابدا , انني لحد الآن اذهب كل صباح للعمل بكل سرور ونشاط , ولا استطيع ان اتصور حياتي بدون عملي في الترجمة الفورية .