TOP

جريدة المدى > عام > عن المحراث والنجوم

عن المحراث والنجوم

نشر في: 14 أغسطس, 2016: 12:01 ص

تذكر سيرةُ شين أوكيسي أنه ولد في الثلاثين من مارت-آذار 1880 في دبلن. وليس في هذا ما يثير. لكن حين نعلم انه ولد من أم وأب مُقعدين، لهما ثلاثة عشر طفلاً هو الأخير منهم، يبدأ عندنا انتباه أول. وحين نعلم أن أمه ربّته على المذهب البروتستيني وسط غالبية كاث

تذكر سيرةُ شين أوكيسي أنه ولد في الثلاثين من مارت-آذار 1880 في دبلن. وليس في هذا ما يثير. لكن حين نعلم انه ولد من أم وأب مُقعدين، لهما ثلاثة عشر طفلاً هو الأخير منهم، يبدأ عندنا انتباه أول. وحين نعلم أن أمه ربّته على المذهب البروتستيني وسط غالبية كاثوليكية، يبدأ انتباه ثان.

وحين نعلم انه عاش في أحياء دبلن الشعبية حيث الفقر والأساطير والأوبئة، وان تلك البيوت كانت تسمى مقابر الأحياء، يبدأ انتباه ثالث. وحين نعلم انه شهد مقتل "بارنل" الزعيم الايرلندي الذي كان يراه الايرلنديون منقذهم من الاستعمار البريطاني، يبدأ انتباه رابع. وحين نعلم انه لم يدرس في مدرسة وانه علّم نفسه بين تعاسة الحياة والفجائع وبين الإسهام في الحركة العمالية، عند ذلك لا ننتبه فقط ولكنا سنقول بالتأكيد كيف يبرز منه كاتب مسرحي! لكننا لم نتساءل حتى الآن عن مضمون المحطات الخطيرة والصاخبة من حياته.
كانت "جونو والطاووس" (1925م) أول مسرحية تعرض لشين اوكيسي. ومن بين حضورها اكبر شاعر في عصرنا، كما وصفه إليوت، "وليم بتلر ييتس" والشخصية المعروفة "ليدي جريجوري" اللذان أعجبا بالمسرحية أيّ إعجاب. واستمر عرض المسرحية لمدة اسبوعين مزدحمين. نال منهما اوكيسي خمسة وعشرين باوناً كانت كافية له لكي يترك عمله في تعبيد الطرق وليبدأ العيش من الكتابة للمسرح.
حين ظهرت مسرحيتنا "المحراث والنجوم" (1926) رأينا كاتباً يتدفق حياةً ووعياً وسخريةً ولا يفارقه اللهب الثوري أو الرغبة النضالية في الكشف والتغيير.
اتحدث اليوم عن هذه المسرحية لأني وجدت فيها متنفساً عما نكابده ونراه في أيامنا.
فالمسرحية تقدم لنا صوراً فاضحة عن البطولات الزائفة التي يتشدق بها كثير من الناس اليوم، وبخاصة بين الفئات والأحزاب دونما تفكير بما تجلب كثيراً من دمار وموت على جموع البؤساء. والغريب انه تحدث في موضوعات غير مألوفة. فالرجال يضحون من أجل مبادئ ، والناس وبخاصة النساء، يدفعون الثمن فواجع وشقاءَ عيش. وأهمية اوكيسي ان الأبطال لا يقفون وحدهم في مسرحياته ولكن هنالك "فطاعات" من الايرلنديين العوام، سكارى ومتعالون جوف . وهو ينقل في مسرحياته أحداثاً وحياة ساخنة! ان الأزقة والطرق والحانات وقوة نفوس الناس وضعفها والمآسي كلها حاضرة على المسرح...
زمن المسرحية انتفاضة عيد الفصح "ايستر 1916 "، المهمة في التاريخ الايرلندي. بعض الثوار كان مؤمناً، بعضهم استهوته أوهام البطولة وظنوا الخوض في نضال كهذا ينتهي لهم بزعامات. لكنهم خائرون حينما يفكرون بأن الموت قد لا يُخطئهم. وناس صغار، غير مبدئيين، متهورون، لفظيون، يتصدرون لمواقف اكبر كثيرا منهم:
"انظر اليه، جاك، انظر، ان روحه باردة ترتجف من مجرد التفكير فيما قد يحدث.."
وخوفه هذا، يوظفه لكي يشغلك عن إدراك خوفك الشخصي!
وأنموذج برينان الذي لم يفعل أي شيء لإنقاذ رفيق نضاله كليثيرو وقد أصابته رصاصة في رئته ..
"ماذا فعلت؟ لم أستطع  ان أفعل شيئاً من أجله سوى مراقبته وهو يلهث ونفسه يتقطع وان أنظر لخيط الدم الرفيع يسيل من فمه على شفته السفلى. صليت له صلاة الميت. طويت مسبحته حول أصابعه ثم ركضت كالأرنب لأنجو من الخطر!.."
بطل آخر جريح يئن ويندم لأنه لم يحاول الهرب:
"إنه دم يا إلهي، لابد أنه دمي أنا!".
وبعيداً عن بطولات الغوغائيين وطالبي الزعامات، هنالك شخصية ماركسية من المستوى نفسه، فهو مرداد مقولات ماركسية لا يفهم كامل دلالاتها، لا يهمه من الانتفاضة الايرلندية أي شيء، ولا يرى فيها نفعاً ان ما يستحق الكفاح بالنسبة له هو فقط السيطرة على وسائل الانتاج! لكنه خير من غيره اذ ان له اهتماماً واحداً يشغله، وهو مغلق عن كل إغراء آخر...
ما يقرّب هذه المسرحية الينا اليوم هذا الحدث الذي يفصل بين الطموحات الثورية والواقع الانساني المتردي للشخوص: فحين توجه البارجة الانجليزية حممَها على المدن وتنتشر الفوضى نجد "بيسي" وسط النيران تحمل منهوبات من المخازن التجارية: قبعات وصناديق حلوى وأحذية ومظلات.." وأمثال بيسي كثيرون.. هو شعب محروم، هذا صحيح. ولكن الا تقف المشاعر الوطنية وقضية ايرلندا دون ذلك، الإجابة عن السؤال تعني الكثير...
المزية الأخيرة لهذه المسرحية، وربما لأكثر مسرحيات اوكيسي، ان الأبطال لا يقفون وحدهم في مسرحياته هناك عواطف متصارعة، حرمانات متراكمة واضطراب في الحياة تقابلها ألفاظ طنانة ومبالغات وتلبس مصطنع  للبطولات كما في الأساطير وهذه سرعان ما تتناثر كلها وتختفي أمام الرصاص الحي!
حسناً أني امتلكت أعماله الكاملة بأربعة مجلدات.
هذه الذخيرة خفّضت ما يعتلج بنفوس الثوار والمتمردين وأولئك الذين يصارعون السوء ليحظوا بالأفضل. ايضاً، وهنا مجد الكاتب الخاص، نجد فيها عيوب الثوريين وانطفاءات الحماسات المفاجئة. وكيف يحولهم الإحباط الى المشاكسة والضد.
لا أظن كتاباً كشف لنا ما وراء الحماسات وما وراء التطرف وما وراء الادعاءات مثلما كشفته مجلدات اعمال شين اوكيسي الانسان ، حيث يكون ، إما ضحية شجاعته وإيمانه وإما ضحية ضعفه او زيفه! سأعود لقراءة المحراث والنجوم فهي مسرحيتنا أيضاً!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram