الشتيمة ليست رأياً، حيث تبلغ الآلام الحناجر أو عندما لا حكمة ولا موضوعية، فتكون الشتيمة صعود سلم اليأس لبلوغ ذروة اللغة وهي في حال من التخلي عن وقار اللسان ولياقة القلب عند تلك اللحظة التي لا خيار فيها ولا رويّة. الشتيمة لغة في الغضب حيث لا مفرّ فتكون "اللا بدّ" لا سواها لحظة متوترة لا هدوء فيها ولا استرخاء، على ما في الشتيمة من كراهة وقبح. مفردة "لص" وحدها شتيمة تخزي الموصوف بها، سواء ثبتت أم لم تثبت. أما "فاسد" فجاءت في القاموس الوسيط: فَسَدَ، كنَصَرَ وكَرُمَ، فَساداً وفُسوداً: ضِدُّ صَلُحَ. والفَسادُ: أخْذُ المالِ ظُلْماً.والمَفْسَدَةُ:ضِدُّ المَصْلَحَةِ.وفَسَّدَه تَفْسيداً: أفْسَدَه.وتَفاسَدوا: قَطَعوا الأَرْحامَ.واسْتَفْسَدَ:ضِدُّ اسْتَصْلَحَ. وتشتم العرب بـ "أخزاك الله" كما شتم الخليفة محمد الأمين أبا نواس، عندما قال فيه أبياتاً تصف لقاء الأمين بجارية أعجبته. قال الأمين للشاعر: "أخزاك الله، أكنت مطلعاً علينا؟" فرد أبو نواس: "عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك".وأرسل الوزير علي بن عيسى (وزير المقتدر) إلى عامل من عماله كتاباً بعزله قال فيه: "قد كثرت منك الشكية وعظمت فيك البلية، بفساد طويتك ورداءة نيتك، وليس مثلك من رتب لأعالي الأمور، ولا يعتمد في صلاح الثغور، وقد وقفت من خبرك على الجل منه وعرفت ما تناهى إلي عنه، فانصرف خسيس القدر، بت الله منك العمر (البصائر والذخائر). ويقال لمن أراد أمراً فأخطأ: "لقد أخطأت أُستك الحفرة". والشعراء الشتامون جعلوا من الشتيمة لحمة القصيد وسداه، وليس لنا أن نستزيد في هذا العمود المختصر، لكن لا بد من الجواهري الكبير، الذي هجا بلا إسفاف وشتم بلا فحش، فاسمعوه يقول، في إحدى مشهوراته، يهجو زمنه بما يصلح لزمننا العراقي الماثل:أي طرطرا سِيري على نَهجِهِمُ والاثَر واستَقْبلي يومَك من يومهمُ واستدبِري وأجمِعي أمرَكِ من أمِرهِمُ تَستَكِثري كُوني بُغاثاً وأسلَمي بالنفسِ ثم استَنْسِري انْ طوَّلوُا فطَوِّلي أو قصَّروا فقَصِّري أو أجَرمُوا فاعتذري أو أنذروا فبشِّري أو خَبَطوا عشوا فقُولي أيُّ نجمٍ نَيِّرِ أو ظَلَموا فأبرزي الظُلمْ بأبهَى الصُوَر شَلَّتْ يَدُ المظلوم لم يَجْنِ ولم يُعَزِّر أو صَنَعوا ما لم يبرَّرْ منطقٌ فبرِّرِي أي طرطرا لا تنكري ذَنْباً ولا تَسْتَغفِري ولا تُغطِّى سوءةً بانت ولا تَتَّزِري ولا تغُضيِّ الطرفَ عن فَرطِ الحيا والخَفرَ كُوني على شاكلةِ من امرهم تُؤَمَّري كُوني على شاكلةِ الوزيرِ بادي الخَطَر
(ديوانه الجزء الرابع). وقوله في مشهورته "دجلة الخير" في تحولاتها بين الغزل والشكوى والحكمة والهجاء:
يا دجلةَ الخير: ما يُغْليكِ من حَنقٍ يُغلي فؤادي، وما يُشجيكِ يُشجيني
ما إن تزالُ سياطُ البغْى ناقعةً في مائكِ الطُهرِ بين الحين والحينِ
ووالغاتٌ خيولُ البغْيِ مُصبحةً على القُرى - آمناتٍ - والدهاقينِ
يا دجْلَة الخير: أدري بالذي طَفحتْ به مجاريك من فوقٍ إلى دُونِ
أدري على أيّ قيثارٍ قد انفجرتْ أنغامُكِ السمّرُ عن أناتِ محزونِ أدري بأنك من ألفٍ مَضَتْ هَدراً للآنَ تهزْينَ من حكمِ السلاطينِ
(المصدر السابق).
في مرحلة، مثل التي نحن فيها، فاقت في بذاءتها كل بذاءة، وجرى فيها الفساد مجرى العفن في الطعام والسم في الشراب، وتسلط علينا من لا يرحمنا، وبلغ الظلم أقصاه حتى فاق قتل الإنسان قتل نملة، ورخصت فيها الضمائر حتى بيعت بسحتٍ حرام، وغلظت القلوب غلظة الحديد على أعناق البشر، فكل ما يقال فيها، وفي زعمائها ونوابها وحجّابها، مباح حلال وجائز، بل مطلوب وهذا وقته.
أبلغ الشتائم حق كل فاسدٍ وظالم
[post-views]
نشر في: 15 أغسطس, 2016: 09:01 م