TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى رحيل المعلم الأعظم أستاذي شكور مصطفى

في ذكرى رحيل المعلم الأعظم أستاذي شكور مصطفى

نشر في: 21 أغسطس, 2016: 12:01 ص

انحني لك أستاذي بدءاً انحناءة إجلال وبخشوع الممتنّ، والمقرّ بفضل. لقد كنت إنسانا نقياً باهراً، وكنت أستاذاً ومعلماً شريفاً وكنت عالماً بالشريعة وبأربع لغات شرقية وتؤمن بحرية الإنسان والتقدم...يوم علمت، وأنا في التآخي، بخبر موتك، انتابني حال من الصمت

انحني لك أستاذي بدءاً انحناءة إجلال وبخشوع الممتنّ، والمقرّ بفضل. لقد كنت إنسانا نقياً باهراً، وكنت أستاذاً ومعلماً شريفاً وكنت عالماً بالشريعة وبأربع لغات شرقية وتؤمن بحرية الإنسان والتقدم...

يوم علمت، وأنا في التآخي، بخبر موتك، انتابني حال من الصمت المعبّأ بالشكوى وبالأسف وبالحزن الثقيل الصعب. الشكوى مما ابتلينا به هنا في العراق في منطقة العذاب الإنساني، من طفولتنا حتى موتنا. تعاسة بشرية عمرها قرون شملتنا لتأكل أعمارنا وتدمر كل جميل عزيز أمام أعيننا. ونحن في معركة دائمة مع الرداءة والرصاص. وأسف أن الإنسان هنا يخسر فرصته الوحيدة في العيش على هذا الكوكب الارضي مجاناً، تحكمه قوة غاشمة أو أفكار غاشمة أو همجية لا تترك الإنسان إنساناً وتنهش أية بادرة للتحضر في شوارعه أو في طبيعة عالمه. والحزن يا أستاذي ومعلمي النبيل، هو على المصير الإنساني المحكوم بالموت. الموت قتلاً أو الموت غرقاً أو الموت تعباً أو الموت حزناً. وأقسى الخسارات الموت نضجاً، وذلك هو موتك!
لو ان شكوراً وحده الذي مات، لقرأنا فاتحة وقلنا تلك هي الدنيا، والموت حصتنا الأخيرة دائما وفي كل حال. لكن ما أخذه معه حين ارتحل فاجع كبير وموجع. ذلكم هو العلم الزاخر، وتلك المعرفة باللغات والبيان، وتلك الرهافة النادرة و ذلك الحس الإنساني والرؤية الجميلة للمستقبل.
شكور معلمي
شكور أستاذي
وشكور أول من أدار وجهي إلى الأدب الإنساني وروح التقدم في الحياة وفي الكتابة!
كنت طالباً في ثانوية بعقوبة، في الصف الثاني المتوسط حين جاءنا مدرس كردي، سبقته إلينا صفته "وطني".. ورأيناه في الصف يتحول لهباً، يتحول ابتهاجاً بالذكاء أو الفتوة المتفتحة فينا. يتحول شكور إشاراتٍ نارية إلى المعنى الأبعد، إلى المستقبل!
كنت طالباً متميزاً في "الإنشاء" ، وحين جاء شكور كنت أقرأ ما كتبت على الطلبة في الصف، وكان يتكئ مثل قوس من نار على الرحلة الجانبية الأولى ويصغي بإعجاب أحسه يتزايد ووجهه يكاد يشع، حتى اني كنت أشغل الحصة كلها لأكمل ما كتبت وهو والطلبة يصغون باندهاش، بفرح أيضاً. حتى اذا دق الجرس وانتهيت، تفجر بكلمات الإعجاب، كلمات ما تزال وهاجة في رأسي:
"أحسنت وأبدعت وبالبديع الرائع جئت!" نعم كان يريد إيقاد الجذوة في رأس هذا الولد الذي يجيد الكتابة، كان يشجعه باللغة التي يفهم ويفهمها التلامذة حوله..
هو "شكور مصطفى" شعلة الثانوية بصوته الجبلي الحاد وبطوله الفارع وباللهب الذي يكاد يتناثر شرراً. يوماً وخارج المدرسة، أعطاني كتاباً كبيراً، قال لي: اقرأه تجده مفيداً. كان هذا الكتاب هو "سقوط باريس" لايليا اهرنبورغ، وكان ذلك في 1953، قرأت الكتاب ورحت بعده أقرأ منشورات دار اليقظة العربية في دمشق. رجل غريب شكور، شكور مصطفى القامجي، ملا شكور، ساحر ومثل درويش جبلي ألقى في رأسي بذرة نار ما تزال مصدر بركة  وشرف في حياتي وكتابتي...
فوجئنا يوماً بنقل شكور مصطفى من ثانوية بعقوبة إلى لواء الرمادي، إلى ثانوية عنه. الأسباب سياسية طبعاً، وغاب الرجل في المنفى. بقي الصديقان، الأستاذ المضيء وتلميذه المتطلع للحياة.
بعد بضع سنين في 1957، دخلت دار المعلمين العالية، فكتبت له رسالة، وجاءتني منه رسالة أضاءت روحي مرة ثانية وكشفت لي أفقاً للنضال الإنساني من أجل الحرية، رسالة ذكرتني بقوله يوماً:
"الإنسان يقاتل أصلا بروحه لا بالسلاح"!
لا أذكر كم بقي معلمي وأستاذي العظيم شكور مصطفى في منفاه، عنه، لكني تخرجت من العالية وعينت مدرساً في كربلاء، ووجدت شكور مصطفى مدرساً للعربية هناك، في إعدادية كربلاء! هكذا يدور الزمن دوراته المنتظمة وغير المنتظمة أحياناً. ثم فارقته لأجده بعد سنين عضواً في المجمع العلمي العراقي. لقد انتبه الزمان لأخطائه فوضع الرجل العالم في مكانه.
لهذا الأستاذ الصديق منّةٌ أُخرى وفضل، لا لأنه شجعني وأضاء فكري، ولكنه فتح لي طريقاً لأرى ولأفهم ما في كردستان من كنوز، من مدخرات روحية، من أجواء لا تجدها إلا في الأساطير. لقد حدثني عن التكايا، عن مدارس الدين واللغة هناك، عن الحياة في المدن الصغيرة حين تتراكم الثلوج وتنقطع الطرقات.. الآن هل عرف الأصدقاء لماذا أكتب قصائد عن كردستان والجبال؟ أكثر من عشر قصائد في مجموعاتي الشعرية عن ذلك العالم الروحي الزاخر وذلك الثراء الإنساني ينعكسان في مظاهر جديدة. والجذور تبدأ أصلا من هناك، من كشوفات شكور مصطفى.. تمنيت لو اني نشرت قصيدتي الطويلة "قصيدة الجبل" قبل ان يرحل، إذن لأضاء وجهه النحيل رضا وابتهاج من نوع نادر ولأراني الأمس الخفايا البعيدة التي أشار لها يوماً!
كم رديء هو الموت، ولكن ما عسى ان نفعل؟
تحية لروحك الباسلة، لذهنك المتوقد المضيء، لكردستان المجيدة التي أطلعت فكراً نافذاً وشرفاً جبلياً لا يهون، ولبلدتك التي تعزلها الثلوج في الشتاء، كما قلت لي، بنجوين!
يا أستاذي العزيز، يامعلمي، حين أعلمتني "التاخي" برحيلك، بارتحال حزمة ضوئية كثيرة الألوان، شعرت بأني أطفو في عالم من ضباب.. لأستقر آخر النهار في مكتبي مثل جذع محترق. لكني استعدت الروح، اقتبست بعض نارك، وعدت بها للحياة لأبحث في الأدراج البعيدة وأجد رسالتك لي، عفواً، ردك العظيم على رسالة لي كتبتها لك إثر قبولي في "العالية" وأنت منفي في "عنه"! قرأت رسالتك وامتلأت بها ضوءاً وإيماناً صافياً وعظيماً بالإنسان وبالحياة وبالمستقبل. وقلت:
سلاماً سلاماً بيوت بنجوين، سلاماً سلاماً جبال كردستان الصامدة في الزمان كله، وسلاماً أيها الكردي الباسل الذي يشع ويقطع كالماس! لقد مات شكور مصطفى. مات الرجل الأكثر رهافةً وشعراً، مات الإنسان النقي كالبلور، مات كردياً فرداً وممتلئاً بالإنسانية كلها، مات معلمي شكور!
أيها المعلم العظيم الذي ارتحل، لقد  علمتني دروساً ولكن الدرس الأعظم الذي علمتني إياه، وأكدته عليَّ، هو ان يظل إيماننا بأفكارنا وبالإنسان والحياة وان "قد يموت الحبيب ويموت الزرع ومن نحب وما نحب ولكن الفكر لن يموت..." اذكر تلك الجملة من رسالتك وذلكم هو درسكم العظيم...
أستاذي العظيم،
معلمي شكور مصطفى،
لقد انحنيت لك إجلالاً قبل أن أبدأ الكلام، وها أنا أنحني إجلالاً مرة اخرى، قبل أن أضع  نقطة انتهاء الكلام!

 

 

نص رسالة الأستاذ شكور مصطفى الى تلميذه ياسين طه حافظ

عنه – ( عانه )
1/11/57
اخي ياسين ! تسلمت رسالتك في وقت مناسب، في وقت كدتُ اجهلُ مصيرك. فكنت اسائل نفسي أَوُلِد من جديد؟ ام شارف الموت للمرة الخمسين؟ وحين أيقنت من انك ولدت من جديد، تذكرت ولادتي، تذكرت كيف ولِدتُ رغم أنف الحياة ورغم المستحيل. تذكرت مدى قوة الانسان – هذا العملاق – وارادته. تذكرت الجوع، اليتم، التشرد، قريتي التي امّحت من الوجود. تذكرت الحرب، دموع الأرامل، جثث القتلى، الابتسامات الجامدة على الشفاه، الاشعاعات الخابية في محاجر العيون. تذكرت إلحاح المتسولين وراء اللقمة اللعينة. تذكرت شخوص الأحلام التائهة التي تسرح ولا تحمل شارات اصحابها . تذكرت وقع اقدام الخيول، خيول الغزاة ذوي الأحذية الثقيلة ... تذكرت اناشيدهم المتجاوبة في خرائب المدن. تذكرت الشوارع المزدحمة في آلاف المشردين. تذكرت الكتب التي كنا نقرأها حينذاك ونحن نريد ان نولد من جديد، نولد رغم انف الحياة، رغم المستحيل، رغم أولائك الذين لم يؤمنوا بك وبي وبالملايين. تذكرت كيف حاربنا الموت وكيف لم نتخلَّ حتى عن أكارع عنزاتنا حين جرفنا سيل الغزو! تذكرتُ مدى عنادنا وجذوتنا ومدى عمق ادراكنا لانسانيتنا. نعم تذكرت كيف كان المستقبل يبلور مفهومه في أذهاننا ونحن أقزام بعد، أقزام الوعي . تذكرت كيف كنا نمنّي أنفسنا بأحلام عريضة : نشبع ! نأكل ! نشرب ! نلبس ! ننام ! ...
نعم يا اخي رغم كل هذا وذاك وُلِدنا من جديد بعد ان متنا للمرة الخمسين، ولكن حين ولدنا أقسمنا بالحياة وبالانسان وبالعلم لن نموت بعد اليوم للمرة الواحدة والخمسين ...
قد تموت جيوبك وتقفر من كل شيء، وكذلك بيتك وملابسك ولكن لن يموت فكرك ووعيك ما دمت مكتشفاً أياه. فليس الموت كما يُظَن ... فلا تعتقد بأنه من القوة بحيث ينال من كل شيء او ينزل في كل ساحة ...
فكرك ! يا اخي ! هذا الذي ولد معك من جديد ، هذا الذي انجبته تجارب مرة وهذّبته دموع ومآس، هذا الذي انبثق من واقع الحياة الصاخب الهدار... هذا الذي لولاه لما استطعت انا العيش في عنه مقبرة الأحرار ، في أقسى منفى ، ساعة واحدة هو هذا الذي يستصغر التفكير في الموت للمرة الواحدة والخمسين .. وأخيراً اليك تهانيَّ .. الحارة لمناسبة ولادتكم في العالية من جديد ...
توقيع اخوكم شكور

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram