من أجل الحفاظ على بيت ساسون حسقيل في بغداد
1-3
لسنوات طوال ظل البيت غير معروف بالنسبة للأغلبية من سكان بغداد، لكي لا نتحدث عن سكان المدن الأخرى في العراق، حتى بالنسبة لي أنا، وكان يجب أن آتي للدراسة في جامعة بغداد، في بداية سنوات السبعينات، لكي أعرف بوجوده.
ومن يرى البيت، الذي لم أطلق عليه عبثاً ذات يوم "بيت الأحلام"، لابد وأن يفكر بعبقرية "الأوسطة" الذي تفنن في بنائه قبل قرابة مئة عام، كان زمن الأوسطوات (قبل أن يبدأ لاحقاً زمن المعماريين والمهندسين)، وكان تفننهم الفطري أقرب للخيال منه للواقع، الأوسطة سيد كاظم ابن عارف، الأوسطة البغدادي، أحد الأوسطوات المهشورين ، هو أحد هؤلاء الفنانين، تصميم البيت وقوته الشاخصة حتى اليوم، رغم ما تعرض له من تحوير، دليل على مهارة هذا الأوسطة الذي بنى بيتاً فخماً من هذا الطراز، لكن الأنيق في نفس الوقت، كل شيء في البيت جميل، شكل الأقواس، ابواب الغرف، درابزون السطح، الشبابيك الخشبية، الشرفة العريضة الواسعة المساحة التي تطل على شاطئ دجلة، كأن اليد التي وضعت لبنة على لبنة في هذا المكان المنزوي قليلاً عن شارع الرشيد في قلب بغداد، مسدت عليه أو نحتت حجارته أو لبخت طابوقه بحنان، عرفت أنها لا تبني بيتاً كبيراً لرجل ينتمي لأسرة بغدادية عريقة عرفت بالثروة والتجارة، أنما تبني مكاناً يليق للأحلام. كأن الأوسطة البغدادي ذاك الذي لم يدرس في مدرسة أو كلية، عرف بحسه الفطري، أن البيت هذا لابد أن يكون واسعاً بسعة أحلام الرجل الذي سيسكنه، لابد أن يحوي على غرف وطوابق عديدة بعدد أحلام الرجل الذي سينام ويصحو فيه، بل وكأنه حدس أيضاً، أن البيت سيظل في مكانه هناك على شاطئ نهر دجلة في مركز بغداد، لن يكون شاهداً على حكومات تعاقبت لم تنجح بمحو البيت من ذاكرة التاريخ وحسب، بل أكثر من ذلك شاهداً لأحلام أوسطوات رحلوا، وأحلام أسطوات آخرين قادمين، أحلام كبيرة لا تسع حدودها بغداد.
طوال سنوات اقامتي في بغداد، وحتى خروجي من العراق باتجاه المنفى المانيا في 28 تشرين الأول 1980، كنت أمني النفس بدخول البيت، وكان أكثر ما لفت نظري في البيت ذي الطابقين في حينه، هي القصص التي دارت حول مكتبته الشخصية الفخمة، قيل أن كتبه احتلت أغلب غرف البيت، وأنها أكبر مكتبة شخصية عرفتها بغداد، كتب بمختلف اللغات، باللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية، كل اللغات التي أجاد القراءة والكتابة بها، للأسف ضاعت أغلب الكتب هذه بعد استيلاء الحكومة البعثية على المكتبة عام 1970 في موجة إعدام اليهود ومعارضيها، قيل أنها أودعتها مكتبة المتحف العراقي، لكنني شخصياً لم أعثر عليها في كل زياراتي للمتحف.
لم يثر البيت فضولي أنا وحدي، كان حديث العديد منا، الذين بدأوا للتو يتلمسون خطواتهم الأولى في مجال الأدب أو الفن، خاصة أولئك القادمين من مدن غير بغداد، كان بيتاً فخماً على شاطئ دجلة وكان ملفتاً للنظر، ومن أجل معاينته (لأن الدخول إليه لم يكن مسموحاً آنذاك) بشكل جيد كان لابد من الالتفاف عليه من جهة النهر، كنا نحتال السباحة في النهر أو الجلوس عن الشاطئ، ولا أتذكر أن أحدنا غامر بالدخول إليه، حتى في أوقات سكرنا، وهي كثيرة، أتذكر أيضاً أن أحدنا إذا أراد لفظ اسم صاحبه الأصلي، كان عليه أن يقول ذلك بصوت أقرب للهمس!
يُنشر المقال بالتزامن مع نشره في الصحفية الألمانية الذائعة الصيت فرانفكورتير الغماينة
يتبع