TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الإنترنت أفيون الشعوب!

الإنترنت أفيون الشعوب!

نشر في: 24 أغسطس, 2016: 06:43 م

قبل ربع قرن من الآن كانت الحياة أقلَّ تعقيداً وأقلَّ وحشيةً، والعالم أكثر سلاماً. لم تكن حياة البشرية تعاني من كل هذا الصخب وكل هذه العدوانية التي أصبحت تلاحقنا في غرف النوم عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
صحيحٌ أنَّ فكرة تأسيس شبكة عابرة للقارات لتبادل المعلومات، كان غرضها عسكريّاً بحت لربط القواعد الأميركية المنتشرة بين أوروبا وآسيا. لكنْ هذه شبكة لم تنقل الحروب والكوارث التي عاشتها الكرة الأرضية بطريقة البث المباشر كما تفعل ذلك اليوم. كانت الشبكة العسكرية أكثر رحمة منها الآن.
ورغم أنّ مشروع التشبيك المعلوماتي يعود الى أواخر عقد الستينيات، إلّا أنَّ نزع البزّة العسكرية عنه استغرق 3 عقود، عندما انطلق عام 1997 بخمسة ملايين مشترك ، وتضاعف العدد 10 أضعاف خلال عامين فقط. وهو الآن يستقطع مليارات المتابعين حول العالم.
كان التلفزيون والبريد العادي، من أوائل ضحايا الشبكة العنكبوتية. إذ فقد الاول مكانته التاريخية لصالح مواقع الأخبار والأفلام، ولم يعد المتلقّي مُجبراً على انتظار فيلمه أو برنامجه المفضَّلينِ أُسبوعاً كاملاً مثلا، أو في ساعة معينة من اليوم.
لم تعد التلفزيونات قادرة على مجاراة سيل الأخبار التي تنشرها مواقع متخصصة، في الرياضة، أو الاقتصاد، أو حتى التسلية. ولم تعد الحكومات قادرة على التحكم بمضمون البث، وفلترته.
وفقدتْ كلُّ تمظهرات التواصل الاجتماعي الحقيقي، كالتلفزيون والسينما والمقهى، قيمها الرمزية، لصالح الحاسوب الذي تحول الى تلفزيون خاصة، وأخذ بتكريس حياة العزلة، والانسلاخ عن دائرة العائلة والمجتمع والاصدقاء. فدشنت شبكة الحواسيب العالمية عصراً من التواصل الافتراضي ابتدأ بغرف الدردشة وتطبيقات المحادثة (cahte)، وانتهى بمواقع عملاقة كالفيسبوك وتويتر، وآفة العصر سناب شات وسواها.
في لحظة معينة، خسرت البشرية خارطة الطرق والمواصلات التي استغرق رسمها وتثبيت معالمها مئات السنين، وشُنَّت الحروب الدامية لأجل حمايتها ومنع احتكارها. لقد قضى البريد الإلكتروني على تاريخ الرحلات، ومدونات القوافل التي كانت تقطع الفيافي وسلاسل الجبال الوعرة لنقلِ تطورات بلاد الصين الى روما مثلا. وقام الـ Email بإرسال ساعي البريد الى تقاعد أبدي، وأغلق الباب أمام ولادة مدونين ورحالة من طراز ابن بطوطة وماركو بولو.
وبانطلاق مواقع التواصل العملاقة، التي يستخدمها مئات ملايين البشر حول العالم، نكون قد ودّعنا عصور التدوين وولجنا عصر شفاهية مدونة، قوامها تعليقات وتغريدات عابرة لا يحفظها كتاب، ولاتثبتها مجلة، ولا توثقها صحيفة.
وبينما أسهمت شبكة الإنترنت بانفجار معلوماتي لم يشهده تاريخ البشرية منذ عصور فجر السلالات، إلا أنها أسهمت أيضا بشكل فعال بتسطيح الوعي، وإقالة العقل لصالح سيل جارف من المعلومات التي يصعب تدقيقها وتحليل مضمونها، ويتعذّر التحقق من صدقها أو زيفها.
لقد تجلّت كل مساوئ الإنترنت بركوب الجماعات الإرهابية قطار العولمة، متّخذةً الشبكة العنكبوتية منبراً لإعادة نشر الفكر المتطرّف على أوسع نطاق، بلغات العالم الحيّة وغير الحيّة. فأصبح ابن حنبل وابن تيميّة، وأُسامة بن لادن والزرقاوي، نجوماً لامعين في فضاء العالم الافتراضي، ينافسون ألبرت آينشتاين، ومادونا، وجاك نيكولسن.
وبعد أن كنّا نسمع ونشاهد الكوارث والمجازر ومآسي الحروب عبر مشاهد مقتضبة، أصبحنا نبحث عنها في يوتيوب وفيسبوك، والتطبيقات الاخرى. وأصبح الأنترنت يُخرِّج أجيالا من المتطرّفين والإرهابيين، الذين يتدارسون الافكار ذاتها، ويتبادلون تجاربهم، ويُشجّع بعضهم البعض الآخر على تقديم نسخة مُحدَّثة للإرهاب، من دون الحاجة إلى الهجرة لأرض الإسلام!
الآن ومع مرور ربع قرن على ولادة الإنترنت، بتنا نتوجّس رعباً مما يحمله مستقبل هذا الاختراع الذي سرقنا من حياة الأزقّة والشوارع، وحوّلنا إلى أسرى بيد هواتف لا تأخذها سِنَةٌ ولا نوم عن أخبار العالم السيئة والصادمة. يلتفت الكثير منّا الآن الى العقود الماضية، رغم مرارتها، بحنين جارف لسلام مساءات العائلة، وهدوء الأيام الرتيبة، وتلقائية لا تخلو من مُنغّصات حميمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram