استقبلني بقامته المديدة ووجهه المبتسم وهو يفتح ذراعيه مرحباً بي وسط المقهى التابع للمتحف، هكذا كان لقائي الأول بالدكتور خييرت براوكسما مدير متحف نينورد في مدينة ليك شمال هولندا. شخصية رائعة ويتمتع بجاذبية وبساطة في نفس الوقت، ويميل الى البوهيمية رغم أناقته الواضحة. جلسنا في مكتبه المليء بالأوراق والوثائق والأعمال الفنية لنتحدث عن المعرض الذي سيقام في المتحف منتصف الشهر القادم، حيث يشترك معي فيه اثنان من الرسامين الذين يعيشون في الشمال. كان هو قد أرسل لي رسالة يسألني فيها ان كانت لدي رغبة في الاشتراك بالمعرض، تحمست للفكرة وحددت موعداً للقائه في المتحف. وعلى الطريقة الهولندية سألني مداعباً وهو يبتسم (اعمالك رائعة، كيف يمكنك ان ترسم بهذا الجمال؟). مضت ساعة وانا اتحدث معه حول المعرض والفن بشكل عام، هو الذي يدير هذا المتحف الآن بعد ان أمضى ثماني عشرة سنة مديراً لمتحف باوتن بلاتس. وقد اتفقنا على ان يزورني في المرسم كي نختار معاً لوحات المعرض. زارني في مرسمي وبدا منشرحاً وهو يدخل الصالة التي علّقت فيها مجموعة كبيرة من لوحاتي. شَغَّلْتُ ماكنة تحضير القهوة، وبينما نحن بانتظار أن تجهز، اطلعنا على اللوحات وتحدثنا عن التفاصيل والتقنيات، اقترب من ثلاث لوحات بمناخ اخضر لم انتهِ منها تماماً، وجلس على الارضيّة وهو يتحسس سطوحها ويسألني عن التقنيات التي استعملتها، كان متحمساً وحساسيته الفنية تزداد سطوعاً كلما جال ببصره على تضاريس اللوحات. بعدها ونحن في طريقنا الى المرسم في الطابق الثاني، توقف قليلاً على السلَّم ليمرر أصابعه على اللوحات الطوال المعلقات هناك، وفي المرسم أُعجِبَ بمجموعة من البورتريهات قبل ان ينقل نظره ويتحدث بخبرة العارف عن تونات وتدرجات الأزرق في لوحة اندفاع في الأزرق المعلقة وسط المرسم، عندها مددت يدي لأسحب لفافة من الكانفاس، لنفتحها معاً وتظهر لوحة الأفق الأخضر للعشاق، وهي على امتداد أربعة أمتار مليئة بدرجات الأخضر والتركواز. بعد قليل صعدنا الى الطابق الثالث او العليّة حيث مجموعة من اللوحات التي رسمتها في أوقات سابقة، وكذلك مجموعتي من الاطارات النادرة التي يصل عددها الى ثلاثمئة إطار. هناك في الأعلى أعجبته مجموعة من البورتريهات التي رسمتها لبعض شعراء هولندا واتفقنا على أن تكون من ضمن لوحات المعرض. بعد لحظات انفتحت أسارير وجهه وانا أشير الي صندوق ملون ينتصب في احدى الزوايا، وقد فتحته لتظهر بداخله لوحة (الليلة الثالثة) على شكل طيات تشبه الكتاب، ويصل امتدادها الى ستة أمتار، وقد اخترناها ايضاً للمعرض. أخذت رائحة القهوة تتسلل درجات السلم لتصل إلينا، نحن الذين نسيناها في غمرة انشغالنا بالأزرق وتدرجاته. أخذنا بالنزول حيث بدت رائحة القهوة تختلط برائحة كعك التفاح وتقترب منّا اكثر. وبينما كنت أهمُّ بالدخول الى الصالة الكبيرة، دَلَفَ خييرت نحو اليمين حيث بعض اللوحات دائرية الحجوم، والتي وقف أمامها وهو يسألني عن المعالجات التي استعملتها في رسمها. بعد ان احتسينا القهوة احضرت ثلاثة كتب مختلفة حول أعمالي وسيرتي الذاتية وقدمتها له بكل امتنان. من خلال حديثي الطويل معه، عرفت أن براوكسما شخص عاشق ومحب للفن بل يعيش وسط الفن، سواء كان ذلك في المتحف او في بيته وسط مدينة خروننغن، والذي حوله الى مايشبه المتحف من فرط ما يحتويه من اعمال فنية عديدة ومهمة. مدهش ان التقي بهذا الانسان الجميل، مُحِبُ الفن وعاشق قهوة السنسيّو، وصانع المحبة بين من يعرفهم، هو الذي يُنَظِّمُ بين فترة واخرى دعوة عشاء وسط المدينة وفي الهواء الطلق، على مائدة تمتد لأمتار عديدة ليشغلها العديد من المعارف والاصدقاء. ودَّعته عند الباب، وقبل أن يقوم بتشغيل سيارته مدَّ رأسه نحوي وقال ضاحكاً(هذه السيارة ورثتها من امرأة أسمها يانكا فان خروننغن، وهي التي أسست متحف باوتن بلاتس) ثم أخرج نظارة صغيرة وهو يقول (هذه نظارتها، مازالت في السيارة، احتفظ بها كذكرى) ثم أردف بِعد ان نظر اليَّ قائلاً ( كانت عاشقة للفن وقد كَلَّفَتْ وقتها الرسام فاوت مولر ليرسم عملاً كبيراً على سقف بيتها) وهنا ذكر اسم مولر بصوت مرتفع لانه قد عرف بأني من أشد المعجبين بأعماله. ضحكنا من جديد وقلت له ان العالم يبدو صغيراً مع حدوث هذا النوع من المعجزات. أشار برأسه موافقاً ولوَّحَ بيده وهو ينطلق بسيارته التي بدأت تصغر وتختفي في الأفق.
حين يزور مرسمك مدير متحف
[post-views]
نشر في: 26 أغسطس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...