أشعر باليأس كلما استسلمت لإحدى ازدحامات بغداد منتظراً أن يُسمح لي بالمرور من منفذ السيطرة الخانق، وكثيراً ما ادهشتني خلال تلك اللحظات قدرتنا كعراقيين على التصالح مع الأكاذيب الكبيرة. فكذبة أجهزة فحص المتفجرات، المستخدمة في السيطرات، مضحكة ومخجلة ومثيرة للشفقة، الشفقة على حالنا التي نزل بها أمناء التحول نحو الديمقراطية إلى هذا المستوى المتدني من مستويات الاستهانة بأرواح الناس وعقولهم.
يشعر أي ممسك للجهاز من جنودنا الأعزاء، بالخجل الكبير، خجل لا تخطئة العين، خجل مصحوب بكثير من اليأس والاحباط، ذلك أن أي جندي يمسك بهذا الجهاز يستطيع أن يشعر بكلمات السباب التي تتفوه بها عيون أي سائق سيارة أتعبه الانتظار في صف الفحص الطويل والمثير للجنون والقرف..
ملف هذه الأجهزة يكشف حجم الكذبة التي تصالحنا معها، فشرطة بريطانيا، البلد الذي أُنتجت فيه، أوقفت مدير الشركة المصنعة بتهمة الاحتيال، كما أن وزارة العمل هناك، أعلنت أن التكنولوجيا المستخدمة في التصنيع غير مناسبة للكشف عن القنابل، بل حتى المفتش العام في وزارة الداخلية العراقية أقر بأن الجهاز لم يكن فعالاً في الكشف عن المتفجرات، ومع ذلك لم تزل القيادة العامة للقوات المسلحة تصر على احتجاز السيارات وتعطيل حياة ركابها خلف منافذ تفتيش تستخدم فيها هذه الأجهزة!! فأي انسجام مع الكذب نعيشه؟!!
سائق السيارة التي يحتجزها الازدحام كل يوم، لا يستطيع أن يفعل شيئاً غير الانسجام مع الكذبة، القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والداخلية (وكالة)، منسجمون كذلك مع استخدامها، الشعب لا يعترض فهو الآخر منسجم. بل حتى أنا الذي أعرف تفاصيل كثيرة عن الموضوع، أشك بعض الأحيان إن كانت هذه الأجهزة كذبة، إذ لا يعقل أنها كذلك وينسجم مع استخدامها قادة البلد وجنوده ومفكروه ومثقفوه!!
لكن مهلاً هل أن كذبة أجهزة الفحص هي الكذبة الوحيدة التي نعرف بأنها كذبة ومع ذلك نتصالح معها؟ أليست حرية الإعلام كذبة أخرى تصالحنا معها؟ صحيح أن الإعلامي يستطيع أن يشتم أكبر مسؤولي البلد، لكن هل الشتيمة هي الركن الأساس أو الأهم من أسس وأركان حرية الإعلام؟ أم أن حق الحصول على المعلومة، هو البند الأهم من بنود حرية الإعلام؟ وكذلك القوانين والنظم الضامنة لهذا الحق والحامية لمستخدمه؟
ماذا عن استقلال الهيئات المستقلة، هل هو كذبة أخرى؟ بالذات هيئة النزاهة، المسؤولة عن ملاحقة الأكاذيب وفضحها، هل تعمل هذه الهيئة خارج عباءة السلطة التنفيذية، أم أنها تعمل وفق شعار (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم)؟ أخيراً، ماذا عن استقلال السلطة القضائية؟ وعلى ذكر القضاء، ماذا عن ملف البنك المركزي ومحافظة السابق سنان الشبيبي؟ ها هنا كذبة أخرى، انسجمنا معها بسرعة قياسية!!.. يا إلهي هل هناك شعب يستطيع التهام الأكاذيب بسرعة هائلة ولا يصاب بعسر الهضم مثلنا.
جميع التعليقات 5
عبدالعزيز الونداوي
موضوع جيد ومعالجة جميلة وأحب بهذه المناسبة إهداء كم المقال المنشور في مدونة الأخ نبراس الكاظمي حول موضوع الجهاز المذكور. إنها ليست الكذبة الوحيدة التي نعيشها الآن .. حاولت أن أحسبها بلا نتيجة. شكرا http://www.imarawatijara.com/2012/02/29/ade651_bbc/
علي امير
تحياتي أخ سعدون عزيزي الكذبة الكبيرة التي مرة عليها عشرة سنوات والشعب المسكين يتقبله بدون ان يحرك ساكن فقول له اما نحنوا العراقين شعب لايعرف يحاسب من اضرة او ينتضر شيء ما حتا يحركة وينفض ضد من كذب عليه هل القوى اليسارية ام اللبرلية ام ينتضر فتوى من اهل ال
سالم العطواني
وهناك كذبةاخرى قد غضضت الطرف هنها ايها الجميل, هل من حق الصحفي ان يطلق الكلام-ويضلل الاخرين- دون تدقيق او اثبات تماشيا مع تيار او موضة او صحبة يخرص على الوفاء بمتطلباتا او عدم التغريد خارج سربها. ماهي مصادر معلوماتك عن قضية محافظ البنك والمتولي لقضيته هو
كاظم الأسدي
ليست المسألة في قدرتناكشعب ((مغلوب على وعيه)) !! على التصالح والأنسجام وإلتهام تلك الاكاذيب ؟؟؟ بل في ما رفعه النظام النازي من شعار قبل أكثر من نصف قرن !!و الذي إعتمده النظام الصدامي أيضا في سياسته الإعلامية ؟؟ والمتمثل بشعار (( كذب ثم كذب حتى يصدقك ال
ابو علي الزيدي
من مهازل الدنياجاء في تراثنا العربي والاسلامي ان هناك كذاب اسمه ابو مسيلمه واحد لغاية 2003 وبعدها ولغاية هذا اليوم ولا سامح الله ان يمتد بهم الدهر الاف من الكذابين الذين لا خجل عندهم ولا حياء يستهزؤن بعقول البسطاءمن هذا الشعب ولكن ( حبل الكذب قصير)