TOP

جريدة المدى > عام > قصيدة النثر والتماهي بين الأنا والآخر في نص "لا أحد سواي يجيدك"

قصيدة النثر والتماهي بين الأنا والآخر في نص "لا أحد سواي يجيدك"

نشر في: 30 أغسطس, 2016: 12:01 ص

الذات بناء ديناميكي ينبثق أو يتشكل من تجربة خاصة أو تجارب مشتركة وهي قد تكون هوية أو تاريخا أو موضوعا.  والذات ايضا وعي أنوي يتموقع خارج الزمان والمكان الأمر الذي يجعل عملية تشكيلها لا تنفصل عن مواجهتها لنفسها، ولا يخفى أن الكتابة واحدة من الوسا

الذات بناء ديناميكي ينبثق أو يتشكل من تجربة خاصة أو تجارب مشتركة وهي قد تكون هوية أو تاريخا أو موضوعا.  والذات ايضا وعي أنوي يتموقع خارج الزمان والمكان الأمر الذي يجعل عملية تشكيلها لا تنفصل عن مواجهتها لنفسها، ولا يخفى أن الكتابة واحدة من الوسائل التي بها تمارس الذات حريتها بما يمنحها الانفلات والتضاد ولاسيما إذا كانت الممارسة الكتابية قد اتخذت من قصيدة النثر مجالا وميدانا للبوح والتعبير . ولعل أهم مميزات قصيدة النثر أنها تسمح باجتماع المتضادات وتجاور المتناقضات فتكون في الذاتية غيرية، وفي الخصوصية شمولية، وفي المخاتلة وضوح، وفي التوهج فتور، وفي البساطة عمق. ولا يأتي هذا الاجتماع بين المتضادات بقصد الترميز والتكثيف فحسب بل يأتي ايضا بقصد المراهنة على الدوال بغية إيصال المدلولات إلى القارئ.
وإذ تنخرط قصيدة النثر في الأجناس الشعرية الأخرى إلا إنها تنفرد بأنها تتقاطع مع جماليات الشعر الكلاسيكية من ناحية أساليب الكتابة وعلاقة الشاعر برؤيا العالم ولهذا السبب احتلت موقعا مركزيا في التنظير للحداثة الشعرية لا كما يتصورها بعضهم من أنها مشروع لم يكتمل بعد..!!
ولما كانت قصيدة النثر قصيدة دلالية لذلك هي تخضع لشرائط الشعر مواربة ومخاتلة ومغازلة ومداراة ومكاشفة انطلاقا من منظار رؤيوي يجعل الدلالات ميدانا للإنتاج والانجاز توافقا أو تضادا ، تكرارا أو تناوبا، تقديما أو تأخيرا، انزياحا أو قيدا ، وهذا ما يجعل من الدلالة معطى رحبا يدهش القارئ ويدفعه إلى التأمل في الكيفية التي بها تخرق القصيدة المألوف لتدخل مضمار المغامرة ..
ولعل أهم سمة في كتابة قصيدة النثر أنها يمكنها ان تخرق المألوف في أي جانب بلا حدود أو اعتبارات كأن يطيل الشاعر القصيدة لتكون نصا نثريا أو لوحة كلامية أو يلعب على سوادها وبياضها ليبتكر وسائط ومستويات للبوح والتفاعل ما بينه وبين قارئه أو أن يدخل إلى فضاء الدلالات فينتج منها ما يريد من دون أية محظورات أو قوانين تقيد عمله أو توجه مساراته.
وهذا ما يتطلب وعيا نصيا خالصا يزخر بالإيهام الذي به يتحقق الإدهاش من دون أن تكون في هذا الإدهاش بساطة ولا في الإيهام تلغيز أو طلسمة.
ولما كان منطق قصيدة النثر غير منطق الشعر الكلاسيكي فان رؤيا العالم ستتخذ طابعا التزاميا غير منفلت وجادا غير عبثي..وفي هذا السياق يأتي نص ( لا احد سواي يجيدك) للشاعرة غرام الربيعي كمثال عيني نتلمس فيه سمات كتابة قصيدة النثر.
ولعل أهم سمة في هذه المدونة هي مقصدية توظيف الضمائر التي أتاحت للشاعرة إطالة قصيدتها لتغدو نصا واحدا يرصد الدلالات ثم يخرق مواضعاتها فتكون مدهشة لا تستخف بقارئها ولا تهادنه ولا تخادعه ولا تضمر له ولا تحاول الإيقاع به، بل هي تريده قارئا فاعلا ومنتجا لا مجرد مفعول مستسلم.
ويعد الاشتغال على الضمائر الشعرية بأنواعها كافة المنفصلة والمتصلة والظاهرة والمضمرة مغامرة دلالية فتحت للمدونة النصية إمكانيات البوح لتغدو نصاً لا يخرق المعتاد فحسب؛ بل يراهن على القارئ في عقد العلاقات واكتشاف المدلولات التي تقصدت الذات الشاعرة وضع قواعدها متلاعبة دلاليا بمستوياتها مغازلة أو مهادنة، استفزازا أو مطاوعة مراوغة أو استلابا ..الخ
ويعج المعجم الدلالي بثنائية الأنا / أنت التي يتم تعاطيها بناء على توظيف الضمائر توظيفا يجعل منها بؤرة دلالية تتوالد عبرها الأفكار وتتناسل المعاني وتتعانق المتضادات وتتصارع الثنائيات وتزدحم المتشاكلات ومن ثم تشتبك بناء على وعي شعري يوصل أطراف المعادلة الشعرية بعضها مع بعض عبر خيوط خفية لتلتحم مع بعضها.
وما هذا التدفق الشاعري الممتد إلا سمة من سمات حداثة النص الشعري التي بها تستحضر الأقطاب كلها أو يغيب بعضها على حساب الأخرى لتخرج إلى حيز الوجود وقد استفزت قارئها وحملته على تلقف ما يقرأ بوضوح لكنه بلا مباشرة أو بغموض لكنه بلا إرباك أو بإدهاش لكنه شفيف وبمكاشفة لكنها ليست ابتذالا وبمغازلة لكنها ليست شبقا.
والنواة الدلالية في ذلك كله هي الضمائر التي تمتد وتتعاظم وتتعقد وهذا ما وسم النص بسمة شعرية خاصة بسبب لا معتادية التعاطي مع هذه الضمائر اولا، ورومانسية الطرح آخرا والتي امدت النص بانطلاقة كتابية خاطفة لا يوقفها حد او قيد ولا يكبح جماح تتابعها قانون او فرضية ..
واذا كانت المجموعات الشعرية السابقة التي كتبتها غرام الربيعي كـ( تراتيل في محراب النخيل) و( حلم ايل الى الصباح) ثم (ضباب ليس ابيض) وغيرها من المجموعات والنصوص قد اعطت فيها مساحة للوطن والوطنية الا انها هنا اخلصت لذاتها بتوجه رومانسي تام وهي تتحرك منها وإليها وحولها مستحضرة الآخر شريكا ودليلا يعاضد أناها ويقتسم معها تجربة أحلامها وواقعها.
ولا غرو بعد ذلك أن يكون الآخر ميدانا رحبا تتجلى عبره رومانسية البوح والهيام والولع والانتشاء الذي لا يكتمل إلا معه، ومشاعر الالم لا تتعمق الا بحضوره، وحتى الكتابة تصبح بوجوده انفتاحا عبر المراهنة على ثنائيات جزئية اخرى كثنائية المفرد/ الجماعة او الواحد/ الغير او الانفراد / الالتحام او العزلة/ الاجتماع او النفور/التجاذب ..الخ
لتصبح مقصدية التوحد والتماهي هي الثيمة المركزية التي منها تتشكل متاهة الهيام الشعري حيث الذات تراوغ بالضمائر متعاملة معها تعاملا خاصا على مستوى الأفعال والأسماء والصور والانزياحات ألفاظا ودوالا ومدلولات:
هي أنا زهو الممالك
هو أنت ذاك الذي اعشقه ص44
وما بوح الأنا إلا صوت شعري يخاتل الآخر والبغية انتدابه ومحاولة التهادن معه، وبدءا من العنوان(لا احد سواي يجيدك) تتضح بجلاء نزعة التوحد فهذان الضميران (كاف الخطاب وياء المتكلم) هما اللذان يجعلان الذات تتأرجح داخل منطقة شعرية تجمع ما بين الاستمرارية والوصفية.. حتى إذا غابت الثنائية وانفرد صوت الأنا فانه لن يبوح إلا بالأسئلة حيث لا معنى للوجود.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram