TOP

جريدة المدى > عام > عندما ودعت دارنا الأولى

عندما ودعت دارنا الأولى

نشر في: 30 أغسطس, 2016: 12:01 ص

صنعنا الحلم الأول معاً، رفعة وأنا ، في بناء أول عش لنا، وأول دار نسكنها.  كنا سعيدَين قنوعَين بهذا الحلم، لكن الظروف القاهرة التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها، كانت السبب في أن نتخلى عن هذا الحلم الذي صنعناه وحققناه تحت أشعة شمس زواجنا الضاحكة.و

صنعنا الحلم الأول معاً، رفعة وأنا ، في بناء أول عش لنا، وأول دار نسكنها.  
كنا سعيدَين قنوعَين بهذا الحلم، لكن الظروف القاهرة التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها، كانت السبب في أن نتخلى عن هذا الحلم الذي صنعناه وحققناه تحت أشعة شمس زواجنا الضاحكة.

وعندما انتقلت ملكية الدار إلى يقظان – شقيق رفعة – تركنا خلفنا بين جدرانه ذكريات مرصعة بزخرفة حياتنا التي كانت تحلي كل زاوية من زواياه. الغرفة الواسعة المطلة على الحديقة، كانت شاهداً على الجدل المتواصل العنيف في بعض الأحيان، بين الفنانين والمعماريين وتطلعاتهم المتفائلة في بناء مستقبل العراق، والمطبخ الضاحك المكلل بأقواس من الخشب الملون والزجاج، تكمن بين حناياه رائحة وصفات الطبخ التي تعلمتها وجربتها فيه.
تبخرت عشرون عاماً كما يتبخر الضباب في صباح يوم بارد مشمس، وعدنا نلملم بقايا الحلم، لنخلق حلماً ثانياً.
سلمت مفاتيح الدار وكأنني أسلم أحلامي التي عشتها وودعت بها عقدين من العمر. نظرت إلى جدرانه الخالية، التي كانت تحليها صور جواد سليم، المرافقة لصور فائق حسن، تسّلم عليها في الجدار المقابل ثيران محمد غني البرونزية الهائجة وكأنها في حلبة المصارعة، لتطل من كوة منيرة صور خالد الرحال وشناشيل لورنا سليم. خلت رفوف المكتبة من ضجة الكتب التي كونت معركة ثقافية بعناوينها المتشابكة، المتناقضة، وعادت إلى بياضها الصافي، نظيفة خالية من ألوان قوس القزح التي ألفتها على رفوفها.
صمت رهيب هيمن على الدار بعد حياة عقدين حافلين بحياة مليئة بمتعة وحيوية الشباب ونشاطه. صمت الجدران التي طوت حكايات وأحاديث وقصص الأصدقاء والأحباء، يعود صدى رجعها في ذاكرتي وأنا أسلم مفاتيح عقدين من حياتي.
حديقة الدار التي تطل على بستان النخيل، بأفاعيه الصغيرة التي كانت تزحف أحياناً، ليس هنالك من يتحداها إلا عندما تحاول أن تقتحم عتبة الدار، والعصافير التي تعود بزقزقتها مساء ترفرف بأجنحتها الصغيرة قبل أن تنام على أغصان أشجار البرتقال المختبئة تحت أشجار النخيل، وبلبل الفجر يوقظني بتغريده المتواصل من أحلام الليل، فيحل وقع غنائه الجميل بدل الساعة الموقوتة، كي لا يفوتني وقت الدوام.
هكذا تبخرت العشرون عاماً وانقضت كما الضباب الذي يذوب تحت أشعة يوم شتاء مشمس. عدنا نلملم بقايا الحلم، لنصنع حلماً جديداً وبيتا ثانياً. حاولنا الإسراع في تحقيقه، فقد وصلنا منتصف العمر، ولم يعد لنا ترف الصبا والشباب عندما صنعنا حلمنا الأول. لم نعلم أن الحلم سيتلكأ ويصاب بعطب كبير، عندما غاب رفعة في غياهب زنازين المخابرات!! لكن الحلم لم يتوقف، وإنما تلطخ بالدموع والزفرات وغابت الضحكات، وانقلب إلى سلسلة من الكوابيس بعد أن حكم على رفعة بالسجن المؤبد. واتسمت جدران الدار الجديدة بظلال الكآبة والخوف من المستقبل.
حاولت أن أحتفظ ببعض أجوائي، رغم الكآبة التي ارتدت لباس الحزن في الدار، وتسلقت صور جواد ولورنا وفائق وضياء جدرانه ثانية، تحاكي بعضها البعض همساً، تروي قصصاً حزينة عن أصحابها الذين رسموها بريشتهم، فهذا جواد الذي فارق الحياة، ولورنا التي تركت بغداد، بعد زواجها الفاشل، وفائق الذي انقلب إلى تاجر، يرسم حسب نزوات ومتطلبات السلطة، وضياء العزاوي الذي هاجر وترك العراق وآخرون مثله.
أطلق سراح رفعة فجأة، وعادت الموسيقى تصدح في ممرات الدار التي رآها رفعة لأول مرة، وارتفعت ضحكات الأصدقاء والأقارب، لكنها انقطعت فجأة بعد عامين، وتقلص الحلم، فقد كان قصيراً متعثراً منذ بداياته. شعرت بلوعة واحتراق عندما غادرت حلمي الثاني، فكيف للناس أن يفهموا ما تعنيه الجدران والممرات وغرف الدار لي؟ وأسدلت الستائر البيضاء على جدرانه وأثاثه بانتظار عودتنا.  
انتقلنا إلى مدينة كمبرج/ ماساشوست، في شقة جميلة صغيرة تطل على نهر جارلس، وبدأنا في بناء وصنع حلمٍ آخر بعيداً عن الوطن! واستمر التنقل من دار إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، لكن حلم العودة إلى بغداد، وإلى دارنا، ذاب بين طيات الخراب الذي حل في العراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل

رواية سونتاج (في أمريكا) عن الهجرة واكتشاف الذات

بروتريه: عبد الستار ناصر.. السارد الذي حكى سيرته بشجاعة

مقالات ذات صلة

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟  هنا مكمن قوتك
عام

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

رامي كامنسكي* ترجمة: لطفية الدليمي يُمضي بعض الأشخاص حياتهم وهم يشعرون بأنهم خارج المكان Out of Place؛ بمعنى أنّهم لا ينتمون إلى أيّ من المجموعات أو التجمّعات المعروفة اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو مهنيًّا. يبدو...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram