4- من بيروت الى الإسكندرية في سفينة إغريقية
بيروت ، مدينة السحر ودوار عبّاد الشمس والوعود العائمة على ضجيج الطوائف وهمهمات الشعر، بيروت التي لا تتعب من جدل ولا تغيب من الرؤيا إلا لتضيء حلماً آخر ولا تستفيق من الحلم إلا لتصير أسطورة حريتنا العتيقة وسبيل رؤيتنا الملهمة طوال عقود.
الرياح في مرفأ بيروت أنثوية ، سماوية أو شيطانية، تبدأ هينة مداعبة ثم تتشيطن ،إنها رحلة شبابي الأولى الحقيقية في البحر بعد رحلات الأحلام وغرائبها ، رحلة توجت رحلات الصبا المتخيلة . بعد سفر طويل دام نحو عشرين ساعة بين بغداد ودمشق ثم بين دمشق وبيروت ها نحن في ميناء بيروت، السفينة وملاحوها اليونانيون شكلت حدثاً مثيراً مختلفاً عن حلمي السندبادي القديم ، فهنا حشود من البشر الغرباء ،آلات وسفن عملاقة وقوارب انقاذ وشرطة موانئ ومصيرك مرتبط بمصائر مجهولة ..
رحلة مع العائلة هي رحلة تحتاط من الجموح والمجازفات وينصاع الفرد فيها لما تقرره مصلحة الرفقة ، وإذن هي رحلة فوق سطح الأشياء والتنزه كمثل السائحين الغرباء بين مدن يلتقطون فيها صوراً تثبت عبورهم لها وبآثارها التي لطالما أغوتهم بها المطبوعات السياحية.
موسيقى ناعمة تنبعث من البعيد ، البواخر تطلق صفاراتها لتمتزج بصياح الملاحين وضجة محركات قوارب الصيد ، البحر بزرقة الحبر ورائحة الموج كالدموع، والمرأة التي غادرت أحلامها ترتدي بنطلوناً أبيض وقميصاً أزرق غامقا له حافات بيضاء وحمراء تشبهاً بملابس البحارة، الريح المتشيطنة تهيج الصداع الذي يتحول إلى دوار بحر، ريح مختلفة ، غير تلك التي تلهم الخيال، الرياح وحركاتها تغير ألوان البحر، في لحظة ما يصير البحر نفسه ويتعرى وعندما يتعرى البحر يمكنني أن أتخيل ما أشاء : حضارات غارقة وقصوراً من بلور ، البحر مرقد التيارات الغامضة والملاحم المنسية وغراميات حوريات البحر مع البحارة التائهين..
البحر ليس النهر، إنه ظل السماء الأزرق ، هبط ذات أعجوبة وعانق الأرض ولم يغادرها ، يالها من رحلة في متاهة زرقتين : البحر والسماء ،أزالت هذه الفكرة الطارئة مخاوفي من لجج الماء، انا التي غرقت صغيرة في جدول بستان ضحل ، رهبة الماء اللامتناهي تهيج مخاوفي، نصحوني أن أبتلع أقراصا تمنع دوار البحر قبل ساعة من الإبحار، أطلقت السفينة "ثيساليا" صفارتها الجشّاء مرتين، وماج الماء حولها ، كنت أقف عند السياج وأنظر إلى بيروت التي تكتمل وتزدهر في انكشافها على الشاطئ والبحر كحورية مغوية ، ما أن غابت بيروت عن ناظري حتى تلألأ البحر تحت الشمس واصطفقت الأمواج وتعالى الزبد ، ودارت بي الدنيا وتمكن مني دوار البحر، هبطت إلى القمرة ، قال احد الملاحين: عليك ان ترقدي دون أن تتحركي في السرير، كوني كتمثال ساكن ، لكن السرير كان يتأرجح مع اضطراب الموج على النافذة المستديرة، أحضروا لي جبنة الفيتا اليونانية المالحة وشرائح ليمون لتخفف دوار البحر، لم تنفع في شيء ،لزمت قمرتي بينما كان الجميع يرقصون او يسبحون في الحوض على سطح السفينة أو يتشمسون أو يقرأون ولن نبلغ الاسكندرية إلا بعد اثنتي عشرة ساعة من الدوار، عندما سكن الموج قليلا ، تحاملت على ضعفي وصعدت إلى السطح ، كنا في المتوسط الذي يحتضنه الليل ، وكان صحبي والآخرون منشغلين بحوارات عن أسعار الرحلات إلى صقلية ومرسيليا وبرشلونة، أما أنا فقد انشغلت عنهم بالبحر الذي سكن قليلا ومنحني فرصة أن أحبه من جديد.