في البلاد التي نذهب اليها، نحن هواة السفر في الصيف، غالباً ما تراودنا فكرة المقارنة بين سعر الدينار العراقي وسعر العملة في البلاد تلك، ساعة نذهب للسوق، لكن أسوأ المقارنات هي التي تأخذنا بعيداً باتجاه سلوكنا، سلوك الموظف في المطار وسكك الحديد ووسائل النقل الأخرى، او سلوك باعتنا وطريقة عرضهم لبضاعتهم، التي تأخذ الرصيف وتتجاوز على حقوق المارة فيه. لكن ما استوقفني حقاً هو أن أكياس النايلون التي يستخدمها الجميع في المتاجر والمحال الكبيرة والصغيرة، إلا ما ندر منها، هي بألوان زاهية دائماً، الابيض والاحمر والوردي والازرق مستبعدين اللون الاسود تماما ، اللهم إلا من استخدامه في جمع النفايات، كنت توقفت عن هذه طويلاً. تُرى لماذا يغلب اللون الأسود عندنا؟
أجلس في المقهى، فيناول أحدُهم زميله كيس نايلون أسود، لعله قنينة خمر، مبلغاً من النقود، قميصاً جديداً.. لا أعرف، أشتري من البقال شيئاً من الفاكهة فيخفيها عني في كيس نايلون أسود، كذلك يفعل بائع الأحذية معي وبائع الخضار، يمر أحدُهم بدشداشة سوداء وطاقية سوداء أيضاً، ونحن في الصيف، كان يرتدي نظارة سوداء، هل كان ذاهباً ليقتل أحداً ما، ذاهب ليحضر مجلس عزاء ما ؟ لا أدري، لكنَّ منظره يخيف. يقول الذي يشاركني مقعدي في المقهى: إن رجلاً ملثماً بقناع أسود، وقف بين يدي شرطي في إحدى نقاط التفتيش بالبصرة، شاهراً مسدسهُ، ثم جاء رجلان ملثمان، ومقنعان بقناعين أسودين، وأنَّ سيارة، بلا أرقام تقدمت منهما، وضعا فيها الرشاشة الاحادية، التي في نقطة التفتيش وذهبا الى جهة مجهولة. كل أفعالنا سوداء، أليس كذلك؟
ذات يوم، وعند دكان أحد الصاغة، صحبة زوجتي، وضعنا على منضدة الرجل ما كنا جمعناه من حُلي، أساور وأقراط وقلائد، كان الزمن زمناً للخبز والسمن والطبيب، وقد أحاط الجوع والمرض بنا من أكثر من جهة، أتذكر شكل ولون كيس النايلون الذي اخفينا الذهب به، كان أسود أيضاً، كذلك كان إطار العدسة الملونة التي عند الصائغ، تلك التي تفحص بها اعيرة الذهب، هل كان قلب الصائغ أسودا، اللهم لا أعلم. لكن الزمن كله كان أسودا آنذاك. مرت الأيام، وذهب الجوع والمرض الى اجساد وبطون غيرنا في العالم هذا، لكنَّ قلوب كثيرين ما زالت سوداء، أترى لأنهم يستخدمون والى اليوم اكياساً سوداً. أفعال الحكومة سوداء أيضاً، وإلا ما معنى، انها وبعد عقد ونيف من الزمن عاجزة عن تغيير لون مياه نهر العشار من الأسود الى الرمادي.
معي في عربة القطار الذي أقلتنا من طهران الى الأهواز كانت تجلس مع أمها فتاة ترتدي بنطلون جينز أزرق لكن بقميص أسود، وبعد دقائق من وجودنا في العربة التي راحت تضيق بالاحذية والحقائب وعلب المياه المعدنية، خلعت الفتاة ثوباً طويلاً، يسميه الايرانيون(مانتو) كان اسودا، لكنه كشف عن عنق أبيض، طويل وباذخ، وصدر ابيض وذراعين بيضاوين، ومع الخضخضة التي يُحدثها القطار تساقطت منها أشياء كثيرة، فقد تورم قدمها، وظلت سلسلة الذهب التي كانت تلعب وتمرح عند كاحلها تضيق، وتضيق فوق حذائها الاسود رأيتها تشتد وتغوص في اللحم الكسروي، الشاهنشاهي الابيض. هناك أدركت ان الأسود لا يليق باحد سواها.
الأسودُ لا يليقُ بأحدٍ سواك
[post-views]
نشر في: 6 سبتمبر, 2016: 09:01 م