منذ عامين ونزيف دولاراتنا ينافس نزيف دماء أبنائنا في الجبهات. ولا مفاضلة بين النزيفين في كلّ المعايير الحسابية، فكلاهما في الأهمية سواء.
إلّا أنّ الفرق يكمن في أنّ نزيف الدماء يُحرِّر البلاد من الإرهاب، لكنَّ نزيف الدولارات يُبدِّد إنجازات التحرير، ويُلقي باقتصادنا وثرواتنا في دائرة الارتهان للقروض الأجنبية. فبكلّ بساطة إنَّ ما نربحه في المعركة مع الإرهاب، نبدِّده من مبيعات نفطنا في مزاد العملة.
لا شكَّ أننا ندفع ثمن التلاعب بأسعار النفط واستخدامه سلاحاً في الصراعات الإقليمية، إلّا أننا في نفس الوقت ندفع ثمن صنبور العملة الجاري من دون حسيب ولا رقيب.
وليس خافياً أنَّ اقتصادنا يدور في دوّامة إيرادات النفط التي انخفضت بشكل حادّ منذ نهاية 2014، وبات علينا تصدير ضعف ما كنّا نصدّره قبل عامين، لكي نحصل على 50% من الإيرادات فقط. وبحسب إحصائية شهر آب، فإن العراق صدَّر 3.2 مليون برميل يومياً، وتلقّى إيرادات بلغت 3.9 مليار دولار.
لكنَّ المثير للانتباه، أنَّ مبيعات البنك المركزي، الذي يُمثِّل محفظة نقودنا، من الدولار تفوق أحياناً إيراداتنا من النفط في بعض الأشهر. وبحسب الإحصائيّات الرسمية فالبنك المركزي باع إلى المصارف الخاصة 21.8 مليار دولار منذ مطلع 2016، أي بمعدل 2.4 مليار دولار كمتوسّط بيع في الشهر.
وحتى لو أحسنّا الظنَّ بالإحصاءات التي تؤكد تراجع مبيعات المركزي من الدولار قياساً بالعام الماضي، إلّا أنّ السؤال يبقى معلَّقاً بشأن إجراءات الجهات المعنية في قطع هذا النزيف الذي تذهب أرباحه إلى جيوب الفاسدين والمضاربين.
وإذا ما علمنا أنّ أغلب الدولار يباع للقطاع الخاص بأسعار رسمية بواقع ١١٨٠ ديناراً للدولار، في حين يبلغ سعر السوق ١٢٨٥ ديناراً للدولار الواحد. أي أنّ الأرباح تبلغ 10 آلاف دينار لكلّ 100$، و100 مليون دينار لكلّ 10 آلاف دولار وهكذا!
وبالإضافة إلى الأرباح التي تتقاضاها المصارف والتجّار من فرق بيع العملة، فإن ما يدخل البلاد من البضائع لا يناسب كميّات الدولارات الخارجة منه تحت غطاء الاستيراد.
إذن فالبنك المركزيّ، ومن ورائه الحكومة باعتبارها المسؤولة عن حماية ثروات البلاد، يكافئ السرّاق والمضاربين بأموالنا، بأرباح كبيرة. وتتضاعف المصيبة إذا ما علمنا أنّ بعض التجّار أصبحوا تجّاراً بفضل تسهيلات المصارف الحكومية، وفساد المصارف الأهلية!
وسط هذه الفوضى والنزيف المالي الذي يُنذر بخواء احتياطنا من الدولار والذهب، تُطالعنا الحكومة ومتحدّثها بإعلان إنجاز 100% من إصلاحاتها في الجانب المالي، و80% في الجانب الاقتصادي.
هكذا يُلقي المتحدّث الحكومي إيجازه الغامض والمثير للانتباه من دون التوقف عند أسئلة الخبراء والمراقبين حول حقيقة هذه النجاحات التي لم نشاهد أثرها في سدّ عجز الموازنة، ولا في تعظيم الإيرادات غير النفطية. أم هل تعتبر الحكومة إعادة البلاد إلى دائرة المديونية والارتهان إلى شروط صندوق النقد الدولي، نجاحات يجب أن يحتفى بها مقابل الحصول على 15 مليار دولار؟!
وحتى لو سلّمنا بأهميّة إقناع المجتمع الدولي بمدّ يد العون لفكّ أزمتنا المالية، فهل النجاح يكمن بتبديد هذه الاموال على قروض لم تتضح جدواها، ولا ضوابط تمنع خسارتها، كما هو الحال في قروض سابقة منحتها الحكومة ولم تستعدها حتى اللحظة. وتكفي الإشارة إلى قروض المبادرة الزراعية التي بلغت نحو 6 مليارات دولار، ولكن أين الزراعة؟!
وتتزايد دواعي الاستغراب والدهشة لدى المراقب والمتابع، من تصالح الحكومة مع هذا النزيف الاقتصادي بدم بارد وكأنّ شيئاً لم يكن. لماذا لا تتمّ الاستفادة من التجربة الإيرانية، وقد طرحتُ ذلك على بعض المسؤولين، التي نجحت في معالجة شح العملة الصعبة بسبب أزمة أسعار النفط والحصار الاقتصادي، بل نجحت نوعا ما بإعادة التوازن إلى عملتها المحلية. فقد صنّفت إيران الطلب على الدولار إلى 3 فئات، الأُولى حكومية، والثانية قطاع خاص، والثالثة من عموم الشعب. وتمّ وضع سعر معيّن لكلّ فئة من الفئات الثلاث، بما يُلبّي احتياجات السوق، ويمنع تهريب العملة الصعبة.
حتى الآن لايبدو البنك المركزي، ولا الجهات المعنيّة بالسياسات النقديّة والماليّة، جادّة في البحث عن حلول واقعيّة ومهنيّة، تمنع استنزاف محفظة نقودنا، وتُبدِّد مخاوف الإفلاس التي تدفع الحكومة لمنح موظفيها إجازات مفتوحة، قبل أن تفكّر بالتسريح الإجباريّ!
ثقبٌ اسمه البنك المركزيّ
[post-views]
نشر في: 7 سبتمبر, 2016: 06:15 م