TOP

جريدة المدى > عام > لماذا النص المفتوح؟ .. مقدمة فـي التنظير

لماذا النص المفتوح؟ .. مقدمة فـي التنظير

نشر في: 18 سبتمبر, 2016: 12:01 ص

دائماً يصحب الكتابة الجادة هاجس تغيير، وقد يكون هو الدافع لها. في الحالين، الرغبة في تغيير الشكل مطلب أساس للكتابة الجديدة. ان نكتب جديداً يعني ان نكتب غير معاد، غير ما ألفناه أو عرفناه، زياً وحياة. هذا الهاجس مع هاجس "الحياة اليوم" و "الحياة كما نري

دائماً يصحب الكتابة الجادة هاجس تغيير، وقد يكون هو الدافع لها. في الحالين، الرغبة في تغيير الشكل مطلب أساس للكتابة الجديدة. ان نكتب جديداً يعني ان نكتب غير معاد، غير ما ألفناه أو عرفناه، زياً وحياة. هذا الهاجس مع هاجس "الحياة اليوم" و "الحياة كما نريد" لا يفترقان.  

في هذه الثنائية نفترق عن الموروث، لا القديم البعيد حسب ولكن عما تم انجازه منا أو من غيرنا. هذا يعني البعد عن التكرار والتقليد. وما دمنا نكتب أدباً جديداً، فنحن مهتمون بتقديم نوعين من المتعة، الإبهاج الروحي والإبهاج الفكري وليس لنا للانجاز غير الفعل التطوري في اللغة وتجديد الشكل. هذان هما ما تتوسل بهما ثقافتنا للوصول.
في الآداب القديمة وفي الكثير من الشائع اليوم، الابهاج الاخلاقي تثيره ثيمة شجية تحقق المشاركة. التسلية حتى اليوم لم توصلنا الى عمق او رصانة إبداعية. اللهم الا في الكوميديات القديمة، التي تخفي في الاضحاك شجىً ! وهذه ما عادت مبعث فرحٍ على مسارحنا الا بقدر ما تعبر عن أحزاننا. من هذا، نكون بين مستويين متفارقين تاريخياً، ما قرأناه من قبل وما نكتبه اليوم ونريده ان يُقرْأ. أي أننا بصدد طليعية جيدة في الكتابة.
ومن أوائل ما واجهتنا من ضرورات في هذا الشأن، ضرورات  باعثها اجتماعي – سياسي. وهذان يصنعان ضاغطاً اقتصادياً. فنحن تحت ضغط حياة وقساوة أو ملزمات ظروف عيش تصحبها او تتخللها رغبة لا تكف في المتعة، متعة عيش وفرح في الحياة.
هي ليست نزوات او رغبات في انماط خاصة من الكتابة ولا هو هوس في التجديد من غير سبب عقلي. يمكن القول ان مبعث الكتابة المجردة واقع صعب خانق يثقله الزحام الصناعي التجاري، الذي لم يترك فسحة للمُتَنَزَّه والهواء الطلق. حتى السواحل ترقشها بقايا السلع والتجارة. فمن غير المعقول، وغير المقبول، ان يكتب أحد عاصفة شكسبير أو يرسم أرياف تورجنيف. تلك الثيمات التقليدية، تلك الاجواء التي يعرفها التاريخ ونقرأ عنها، لا مسوغ بعد لابداعها.  فقد تغير ما كتبت عنه . هي لم تعد ترضي ناس العصر. عصرنا ابتعد مذاقا وثقافة عنها. فلا الرواية التقليدية مقبولة بعد ولا الغنائيات القديمة. الرومانس مضطرب والغنائيات تتخللها النشازات وعلى العشب حولنا تتناثر العلب الفارغة والمناديل الورقية وقناني الادوية واشرطة المخدرات.
مهمتنا ان نكتب بحساسية الواقعي وصدق التماس او التجربة لا لمتاع زائف. الاسلوب القديم، أي قديم، وثيمته ما عادا مؤثرين وقد خسرا من زمن ليس قصيراً قدرتهما على الابهاج او الاقناع. الانسان الجديد عقلاني بنسبة اكبر كثيرا من قبل ولا يرتضي بعد بخداع الحكايا. هو أمام مانشيتات الصحف وأخبار الاسواق والبورصات والصناعة وتجارب الاسلحة. هذه حوله وقريبة من بيته ويصل تأثيرها الى اثمان الخبز والفاكهة. هو فعل الرصاص لضمان وكسب الاسواق التجارية وحرف المضاربات الدولية، كل الى حيث يريد.
زحام التوقعات اقتضى كتابة مفتوحة النهايات على الاحتمالات اكثر مما على المتعة او انتظار البهجة هذه بعض قد يتخلل الآتي. نحن نعلم واصحاب المهن الأدبية يعلمون بأن المباهج اليوم في الاسواق اكثر مما في الكتابة، امتلك مالاً تحقق رغبات وبعيدا عن الصوفية والميتافيزيق وعن الفرح المصنوع  من مفردات اللغة. وإذا اضفنا لذلك ان الثيمات القديمة لم تعد فاعلة، فستكون الكتابات الجديدة مفتوحة النهايات مطلوبة في الرواية وفي القصيدة كما في لوحات الرسم.
عدم الانصياع لهاتين الحاجتين او المطلبين ابعد كتابات كثيرة عن مثقفي العصر وأدى الى اسقاط الكثير من الكتابات الشعرية. نعم، يوجد شعر ويُنشر ولكن الواقع اليومي يحكم بثانويته لا بأوليته. بقي صخب اللغة او المفارقات أو باولويته الاثارات النثرية الاجتماعية الفارغة للجمهور الذي ما يزال قريبا من الثقافة الاولى. القصيدة مفتوحة المضمون او النهاية على التأويل هي اليوم قصيدة الصالة والمجلة المتخصصة وأهل الفن، هي المنسجمة مع الثقافة الجديدة ومع الفكر المعاصر. نحتاج مجد اللغة لكشف حقيقتنا الخافية لا لاحداث الصخب والمبالغات او السقوط في التهريج.
لسنا بحاجة لمزيد من تزييف الانسان ومن خداعه بما هو غير حقيقي. الادب الجديد، جديد بطلبه للحقيقة الغائبة فينا، لمتاعب واحتياجات ارواحنا لا لافكارنا المتخفية منذ عصور. نريد في الكتابة الادبية ان نمتلك حقائق الحياة. واحدة من الخسارات اليوم هي اقصاء الامال في الوصول. من هنا حاجة  الابداع الى النهايات المفتوحة، الى الغاء القسر، وفتح الافق للبهجة وللتفكير وتأمل الجمال الذي تراءى من وراء السطور. حقيقة التراجيديا لم تعد تلك التي شهدها الاغريق ولا حتى العصور الوسطى. حقيقة التراجيديا اليوم يكشفها الحقيقي لا ما نصطنعه. المصنوع حِرَفي لا ابداعي.
صرنا في الرواية، في الشعر نوزع التراجيديا على الصفحات نضمنها المقاطع ونحن نكتب نزيح او ندخل في علاقات عاطفية او فكرية ولا نركزها في النهايات المغلقة فلا افق بعد.
الحاجة للاشكال الجديدة ليست من اجل المختلف لاختلافه والجديد لجديده. ولكن من اجل الخلاص من آفاقنا القديمة، مما فرض علينا من قوالب او صيغ او قواعد عمل. نريد التحرر من اختناقاتنا المألوفة، موروثة أو مفروضة. نريد تعبيراً عنها لنتحرر ولابد من ان يكون هذا التعبير، غير مألوف، ان يكون مختلفاً عما ادمنا عليه.
الاختلاف هنا ليس مطلبا معزولاً عن الحياة التي أورثته أو انبثق منها. كل منا الان "شخص" في "حياته" هو. وكل مستلب أو متورط أو خاطئ أو ضحية أو مسكون بالغرابة ويريد أن يحيا على طبيعته في الحياة. الأدب يتبنى هذه الاحوال، احوالنا افراداً وجماعات، ليكون "أدبنا الخاص" . أعني أدبنا نحن، نكتبه من اجلنا نحن ومن اجل حياتنا التي نريد تحريرها. ومن اجل هذا لانعتمد في الكتابة عقدة ننزوي لحلها. نريد ان نمتلك الحياة عبر الكتابة. وفي طريقنا ونحن نواصل ابتداع السطور، تتكشف الحيوية وتضيء الروح ويستمر التواصل حتى تكتمل الرواية او تكتمل القصيدة.
العمل السيمفوني يفعل ذلك أيضاً. معارض الرسم التي تتكامل لوحاتها تصنع سرداً أو تصنع مطوّلة شعرية. الغاية واحدة، الاسلوب متماثل والمنطلق الى الافاق الجديدة واحد أيضاً. إذا سألنا عن ظاهرة الادب اليوم، فإنما نسأل عن التحولات فيه وعن رحلة الاستقصاء في هذه المسيرة التي تعطي أملا وتعطي حياة .. حين نصاب او نسجن او نعاني في مشفى، وحين نفتقد حبيبا او زمنا، فنحن ضمن تراجيديا فردية مجهولة او تراجيديا مجتمع بلا بطل واحد. كلهم، كلنا شخوص في الجرح او المحنة. نحن ضمن تراجيديا الكون والمجتمع والعائلة ومع الذات محكومون بالسقوط او بالانتصار. الكتابة الجديدة اليوم تغير السلالم، ترفع البطل الجديد لينتصر!
نحن في الكتابة، نصنع انتصاراً، نصنع انطلاقا، معايشة جديدة غير محددة النهاية وذلك بالانفتاح على الآتي، على المتوقعات، ورفض الحكم المسبق كما في "العقدة" !
المفاجأة واردة مادمنا ارتضينا المجرى. صناعة العقدة عمل مضجر، آلي، غير فني. التحولات بديل جديد لأنها طريق تطور وتفتح حياة في العمل وهو يتقدم. من هنا صرنا لا نستجيب للنهايات الدرامية. لا نريد قسراً. نحن في الكتابة الجديدة نسعى للانفتاح على التأويل. لا للأحداث المصممة سلفاً. حيوية العمل رواية أو قصيدة، في استمراريته. وهذا قريب الصلة بالتقدم الاجتماعي، باستمرارية العقل السياسي ايضاً.
هذه الحرية تشكل لما بعد الحداثيين مشكلة قطباها: الفوضى- والخوف منها – والسلطة وكراهتها. ثمة حرج في التقدم. وهذا يؤكد الحاجة للتحرر من العقدة، ليتحرر العمل من لزومياته. التحرر من العقدة plot واحيانا من القمة climax ، مرادف للأمل. والأمل هو بالتخلص من قدرية الحياة المحكوم بها الافراد ومن عيوب السلطة والمجتمع وعيوب الفكر المترسبة من أزمنة حكم وأزمنة مسخ لحقيقة الانسان واستصغار روحه. نحن في الادب، لا نستطيع انقاذ الحياة ولكننا نصنع حياةً نضع فيها آمالنا ليعيشها آلاف آخرون معنا. أننا نهيئ فرصة لرؤية جديدة، عواطف وخلاصاً.
وتطور لغتنا في الممارسة والتعبير، يعني ان ثقافتنا تعمل بمزيد من الوقود المضاف، مثلما استياءاتنا ورفضنا للسيئ، للرديء ، للمربك القديم كعمل – التحول الذي أوجده العمل يعمل أيضاً. بهذا لا نبقى سجناء اجسادنا محكومين من الخارج. جاءتنا، أو نحن حررنا طاقات ونحن نكتب، تولدت من حركة، فاعلية العمل الادبي، من الانجاز.
في الكتابة الادبية خضنا حياة وقطعنا طريقا قديما، واهملنا طرقا لنصنع لانفسنا ممرات خاصة الى ما يريحنا، الى حيث نجد انفسنا تحررت من وابتدأ املنا في ...
هل يمكن القول باننا وصولا الى الامل سلكنا ما يسمى طريق النفي، أي نفي المألوف وإحلال المختلف مثل ذلك الذي في الخطاب واننا وسعنا مجالات الفعل لمبدأ "سوسير": "لا يوجد في اللغة الا الاختلافات .." ، فأكدنا في عملية الابداع "الاختلافاتِ" وكان عملنا هو التنقل في المراحل وكان لنا في التنقلات تحريرُ الرغبة حتى اذا انتهى العمل، انكشف الافق الروائي او الشعري ورأينا لقطة الفرح، التي نسميها "الامل" او اكتمال الرؤيا او انتهاء نفي الشوائب في الشخوص والاحداث والخطاب الادبي، ونكون انتهينا الى تصور جديد ونحن نسعى وصلنا اليه: معنى قولنا ونحن نسعى" يعني لم نصممه مُسْبقاً، لا عقدة ولا سواها. الاوج او القمة قد تتعدد وتحضر في عديد المحطات. هي عادة ما تكون نقاط انتقال الى الكشف الاوسع ومما سبق. الفارق بين العمل الادبي، كلاً، والخطاب، اننا في العمل الادبي نتصل باطراف موجبة وسالبة ونصنع حياة في طريق تقدُّمنا بينما الخطاب، لا مجرداً، لا يتوافر على افكار، يتوافر فقط على اختلافات مفهومية واختلافات صوتية تنبثق من النسق ولا تسبقه. في العمل الادبي تتولى قوتنا الابداعية توجيهَ العقل وتعبئة "القول" بالرغبة، بالنفي او بالقبول. استمرارية هذا الفعل الارادي، والفني، باسناد من مجمل الثقافة، يصنع الحركة المتقدمة في النص. نحن لا نلغي الفوارق ولكننا نعمل من خلالها وعلى وفق "ارادتنا" او "وعينا".
اما لماذا اهتمامنا باللغة، فلأن اللغة جزء من ثقافة المجتمع. والروائي، بحسب "باختين"، منتج ثقافة مجتمعِهِ ومحاورٌ فيها. وفي العبارة الاخيرة كان حديثنا اليوم. التصفية والتقدم عملية حوارية وصولاً الى انفتاح الافق.
وفي هذا التقدم او الحوار يحصل التقويم الايديولوجي ايضا. من هنا يتحتم الاقرار بطرفي العمل: اللغة والثقافة. فبالتمكن الكبير من العمل بهما تتحقق عظمة النص او نكوصه...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram