1-3
ما الذي يحمل المرء على البحث عن شيء، أو عن إنسان، لم يكن قد تعرف عليه، أو عن رائحة تلتصق بالذاكرة، أو عن بيت يحمل سراً وجلاً؟ لا أعرف جواباً بالضبط، لكني أينما ذهبت، وفي أي مكان حللت، اشعر بقرابة مع أشخاص، عاشوا هناك. من غير المهم مدة إقامتهم، يكفي أن خطواتهم طبعت آثارها الأرض التي تطؤها الآن قدماي، أنا الغريب، الذي لا يريد أن يشعر بأنه غريب، فيلجأ للتفتيش عن أسلاف له، أصدقاء في المكان الغريب. ذلك ما شعرت به، في زياراتي المتعددة، لبيت دوستويفسكي في سانت بطرسبورغ، في بيت لوركا في فوينتا ديل الباكيرو، بيت توماس مان في فيلدافينغ، بيت فرناندو بيسوا في لشبونة، بيت لورنس داريل في الإسكندرية، وبيت كافافيس في الإسكندرية. لكن الكثير من أصدقائي هؤلاء، تنقلوا على الأرض، مثل "بحار على اليابسة"، (الجملة المحببة التي كتبها رفائيل البرتي عنواناً لأول ديوان له، وسمعتها منه في زيارتي له عام 1988 في شقته في في مدريد) أحد هؤلاء كافافيس.
عندما غادر كونستانتينوس كافافيس المدينة التي تولع بها لم يلتفت إليها، كأنه عرف إنه لن يعود إليها ثانية. لكن كما يبدو كل مدينة تتصرف على طريقتها الخاصة: وهذا ما تؤكده أسطنبول. فكما لو أن المدينة أرادت الانتقام (مثل حبيبة ظلت تنتظر حبيبها لوحدها) ابتلعت ببساطة كل ما يُذكر بالشاعر الذي أحبها. ليس هناك تمثال ولا زقاق صغير. ليست هناك مخطوطة أو معلومة سياحية تشير إلى الشاعر الشهير والغريب جداً، اليوناني كونستانينوس كافافيس المولود في 71 أبريل/آذار 1863 في الإسكندرية مصر، المتوفى في 29 أبريل/آذار 1933 أيضاً في الإسكندرية والذي تنقل في حياته بين محطات عديدة: مارسيليا، باريس، ليفربول ولندن، في 15 كوينبوروف تيراس القريب من الـ"هايد بارك"، في بيت مكون من عشر غرف كان أجاره 200 جنيه استرليني في السنة، كما قال لنا البروبسبيكت السياحي في زيارتنا الأخيرة للندن، في ذلك الوقت كانت الحياة ما تزال تضحك أمام الشاب كافافيس.
اسطنبول كانت محطته بعد لندن. لكن دون عنوان، لأن الشاعر ذاته لم يشأ ذلك. فهو قد طلب من أصدقائه مثلاً مراسلته على عنوان بنات عمه. كل الآثار التي يمكن أن تقود إليه محاها الزمن. لم تكن اسطنبول محطة اختارها الشاعر طواعية. كان مجبراً على ذلك. ففي يوليو/تموز 1882 اندلعت في الإسكندرية اضطرابات معادية للأجانب إنتهت إلى إرتكاب مذابح ضد السكان المسيحيين، بالتوازي من ذلك راح الإنكليز يقصفون المدينة. وسط ذلك الجو هرب من يستطيع الهرب. الأم هاريكليا كافافيس وأبناؤها الستة، بينهم كونستانتينوس، الأصغر صعدوا في بداية شهر يوليو/تموز السفينة التي حملتهم إلى المدينة الواقعة على مضيق البسفور. كانت العائلة في تلك الفترة تمر بظروف معيشية قاسية، فبعد موت الأب كافافيس في 1870 فقدت مصدر الرزق الأساسي.
هكذا هربت العائلة باتجاه اسطنبول، حيث استقبلها الجد على مضض. كان اسمه جورج فوتياديس وكان يملك يالي، كما كان يُطلق على الفيلات المبنية من الخشب المزودة بالأبراج المطلة مباشرة على البحر. الفيلا وقعت في الضاحية التي يطلق عليها الأتراك يانيكوي (تعني القرية الجديدة) والذي يترجمه اليونانيون إلى نيوخوري. لأن في ذلك الحي سكن العديد من اليونانيين، المشهورين أيضاً، أطباء ومعماريين و دبلوماسيين عملوا في خدمة السلطان. الجد فوتيادوس كان تاجراً بالجواهر. ولكن عندما تمر التجارة كما هي الحال غالباً في فترة كساد يرقد على فراش المرض ويعيش على القروض.
يتبع
عندما تمحو المدينة آثار الشاعر
[post-views]
نشر في: 20 سبتمبر, 2016: 09:01 م