انتهت مرحلة الدراسة الابتدائية في 1941، وأنا، شأن كل العراقيين، كنت مغرما ً بمونولوجات عزيز علي. وكنت استمع بحب الى الأغنيات العراقية من تأليف صالح الكويتي، او لعله داود الكويتي، او كلاهما. ولا ازال اتوق بحنين خاص الى اغنية (للناصرية) لصد
انتهت مرحلة الدراسة الابتدائية في 1941، وأنا، شأن كل العراقيين، كنت مغرما ً بمونولوجات عزيز علي. وكنت استمع بحب الى الأغنيات العراقية من تأليف صالح الكويتي، او لعله داود الكويتي، او كلاهما. ولا ازال اتوق بحنين خاص الى اغنية (للناصرية) لصديقة الملاية. لكن علاقتي المباشرة بالموسيقى بدأت في 1943، عندما كنت في الصف الثاني المتوسط، حيث خلفت مرحلة الطفولة منذ عام. واصبحت اشعر انني بدأت انفتح للحياة ولعالم الثقافة. وبدأت اقرأ عن شيكسبير، وموليير، وغوته، وبوشكين، وسرفانتس؛ وعن مايكل انجيلو، ودافنشي؛ وعن موتسارت، وبيتهوفن، وتشايكوفسكي، الخ.
وكان ابي متدينا ً، لا يسمح بدخول اي شيء موسيقي الى البيت. فكنت اجد ضالتي الموسيقية في بيت عمي حسن المتوفى. وكنت اجد في ابنائه خير صحبة. اثنان منهما اصبحت لي علاقة موسيقية بهما. امين اقتنى عودا ً، واصبح يتلقى دروسا ً على يد سلمان شكر. وصرت انا واخوه عدنان نتلقى دروس العود على يد امين. واصبحنا على معرفة بتقنية العزف البدائية، ثم تقدمنا في ذلك. واعترف بأن عدنان كانت لديه اصابع ابرع من اصابعي.
وتعلمنا عزف السماعيات، مثل سماعي بيات، وسماعي محير، وغيرهما. ولا تغيب عن ذاكرتي النغمات التالية التي كنت اعزفها على اوتار العود:
مي فا صول صول مي فا مي ري
مي ري دو سي لا
وكذلك:
دو ري مي ري دو سي سي دو سي لا
دو ري مي فا صول صول لا لا مي فا مي
لا لا لا فا لا لا لا فا مي فا مي
واقتنينا غرامافونا ً احتفظنا به في بيتهم. كان من طراز (صوت سيده)، ويشحن بواسطة ذراع نديره الى ان يمتلئ الزنبرك. وكانت الأسطوانات قابلة للكسر، وتدور 78 دورة في الدقيقة.
واصبح جارنا جواد مهراد ابن الدبلوماسي الايراني عضوا ً في فريقنا، ونافذتنا على الموسيقى الغربية لأنه كان يتعلم العزف على آلة الكمان في معهد الفنون الجميلة على يد الأستاذ الروماني ساندو آلبو. وكان ينقل إلينا اخبار الشريف محيي الدين حيدر، سيد العازفين على العود، ومدير معهد الفنون الجميلة. وفيما بعد عزف لي تلميذه سلمان شكر مقطوعاته المذهلة:
كابريس، والطفل الراكض، وليت لي جناحا ً، وهي ما تزال مسجلة لدي على الشريط الكهرمغناطيسي، مع عزف الشريف نفسه ايضا ً. وكنا نعلم منذ تلك الأيام - سنوات الأربعينات من القرن العشرين - القيمة الفنية العالية لهذه المعزوفات، التي ألفها الشريف محيي الدين حيدر تذكرة بموسيقى باغانيني، وفرانز لست.
وصرنا نقتني الاسطوانات الموسيقية الغربية من مخزنين للموسيقى، هما مخزن سيروب في شارع الرشيد عند عقد النصارى؛ ومخزن اسكندريان في الشارع المؤدي الى باب الشيخ. ومن بين أول مجموعة اقتنيناها من هذين المخزنين أذكر الأسطوانات التالية:
توكاتا باخ؛ سوناتا ضوء القمر؛ وافتتاحية (إيغمونت) لبيتهوفن؛ والسمفونية الناقصة لشوبرت؛ وافتتاحية اوبرا (مدام بترفلاي) لبوتشيني؛ ومارش سلاف لتشايكوفسكي ... وكانت توكاتا باخ عرسا ً ملائكيا ً باصواتها الجهيرة الساحرة. وهي هنا ليست نسخة باخ على الأورغن، التي استمعت إليها بعد ذلك بسنوات، بل نسخة الكوندكتور المذهل ليوبولد ستوكوفسكي، على الأوركسترا. كانت اشبه بقلاع تتهاوى امامنا في فضاء لا نهائي. وكانت تملؤني أحساسا ً باانتماء الى السعادة والاقبال على الحياة.
ولكن من كان ليوبولد ستوكوفسكي؟ كان ستوكوفسكي امبراطور الموسيقى بمكانته كألمع كوندكتور في أيامه. وهو الذي اصطفاه والت ديزنني لقيادة الأوركسترا في فيلمه (الكارتوني) الأعجوبة (فانتازيا). شاهدته في الولايات المتحدة بعد ذلك بسبع او ثماني سنوات.
وستكون رحلتي مع الموسيقى (الكلاسيكية) طويلة، كانت توكاتا باخ محطتها الأولى. وانها لرحلة عمر. وانا لا ادري كيف اتسعت حياتي لشواغل اخرى مع ان الموسيقى ملأتني. الموسيقى كانت شاغلي ليل نهار، لأنني كنت اريد ان أنتمي إليها. آه، لو كان في وسع الانسان ان يحيا بالموسيقى فقط.
وانا لا أملك أذنا ً موسيقية كالتي يملكها الموسيقيون او العازفون، لكنني اعتبر نفسي كائنا ً موسيقيا ً في المقام الأول. إن عالمي هو عالم جميع المؤلفات الموسيقية التي اسمعها. وبعضها له حضور خاص في ذاكرتي، اعيش معه، وستصبح مقطوعات او الحان معينة صديقاتي او اصدقائي.
لكن علاقتي اليومية مع الموسيقى بدأت منذ عام 1949، اي بعد انتقالي الى اميركا للدراسة. كنت الآن اسمع الموسيقى كل يوم، واخذت دروسا ً في تذوق الموسيقى.
في اثناء دراستي في الولايات المتحدة، كنت استمع الى الموسيقى بلا انقطاع من اذاعة متخصصة في الموسيقى فقط، وكانت تلك أغنى مرحلة في حياتي موسيقيا ً (دامت بين 1949 - 1952). ولم تتكرر مثل هذه الفرصة إلا عند انتقالى الى بريطانيا في 1995. ودامت الى ما قبل سنة من الآن (انني اكتب هذه المادة في 2016).
وخلال كل علاقتي مع الموسيقى، كنت دائما ً في حالة اكتشاف. لكن اهم مرحلة في علاقتي مع الموسيقى، هي اكتشافي موسيقى البيانو. انا كنت استمع الى البيانو في سياق التراث الموسيقي الذي استمع إليه. لكنني لم اكتشف البيانو كعالم هائل لوحده إلا في مرحلة متأخرة نسبيا ً في حياتي. وانا اعتبر ان علاقتي مع البيانو هي اجمل كل إصغاءاتي الموسيقية. لهذا اعتبر البيانو هو يوتوبيا بالنسبة لي. وسأعود الى هذا الموضوع. فأنا أود ان اقول ان اهتماماتي الموسيقية لم تقتصر على البيانو. فأنا على مدى عمري كله تقريبا ً كنت من المهتمين بالموسيقى (الكلاسيكية) الحديثة، وفي احيان كثيرة الحديثة جدا ً. كنت على مدى سنوات منصرفا ً الى متابعة الموسيقى الإلكترونية، وليس من باب الصدفة ان اكتب كتابا ً (كتيبا ً في واقع الحال) عن الموسيقى الإلكترونية. وقد خضعت الى سحر هذه الموسيقى حينا ً من الزمن. وخيل اليَ ان الموسيقى الإلكترونية هي موسيقى المستقبل.
وهنا بدأت علاقتي مع الموسيقي الألماني الحديث كارلهاينز شتوكهاوزن. وسأنقل سطورا ً من كتابي (اسرار الموسيقى)، عن علاقتي بشتوكهاوزن: لقد بدا لي شتوكهاوزن بفضل بحثه الدائب عن اصوات جديدة غير مطروقة، مهديا ً موسيقيا ً منتظرا ً، وان موسيقاه هي الموسيقى "لأخرى" التي ابحث عنها. كان هو - على الأقل - يوحي بذلك. وكان يُعتبر، او يعتبر نفسه، بيتهوفن هذا الزمان. وكنت اتطلع بفضول زائد الى محاولاته التجريبية المتجددة، وأصغي الى آرائه باندهاش:
"انا لديَ مركز جنسي، وثلاثة مراكز حيوية، ومركزان ذهنيان، ومركز ما فوق طبيعي يتناغم مع لون معين من الموسيقى. كما استطيع ان اجعل مركزي ما فوق الطبيعي يتناغم مع لون آخر من الموسيقى... وبالتالي فمن الأفضل ان يستمع المرء الى موسيقى ترتقي الى اسمى مما هو طبيعي."
بدت لي تطلعاته هذه مثيرة للاهتمام، ما لم تصدر عن نرجسية (هو متهم بها) او جعجعة. فهو في بعض مؤلفاته يطلب من العازفين ان يكونوا على استعداد دائما ً لسماع نداء مجهول. هذه الرغبة في التعبير عن المجهول أثارت فضولي، وكذلك رغبته في اضفاء ابعاد ميتافيزيقية على موسيقاه. واعجبتني تجربته مع آلة التام تام.
لكن احدا ً لم يحفل بالمحاولات الالكترونية او ما اليها. لقد برهنت الأيام على ان التجارب الموسيقية الطليعية التي سادت في الستينات من القرن العشرين وما بعدها كانت جعجعة فارغة. وخاب ظني انا ايضا ً من المحاولات المتطرفة في الابتعاد عن الموسيقى المقامية. وانا احيل القرَاء الى كتابي (اسرار الموسيقى) ليقفوا على تجربتي مع الموسيقى.
لكنني سأقدم صورة كاريكوتورية عن خلاصة علاقتي بالموسيقى في اثناء حياتي: فباخ عندي يمثل الموسيقى الجليلة؛ وبيتهوفن يمثل الموسيقى العظيمة؛ وتشايكوفسكي يمثل الموسيقى العاطفية؛ وديبوسي يمثل الموسيقى "المائلة"، لا سيما في مقطوعته (قيلولة الفون الخرافي)؛ اما سترافنسكي فيمثل الموسيقى المجنونة او الطائشة.
لكنكم لو تسألونني عن احب المقطوعات اليَ، لقلت إنها لا حصر لها. لكنني أوثر من بينها: الأعمال الغنائية لهاندل، التي تعبر عن اقصى حالات الأسى والتوجع؛ والسمفونية التاسعة لبيتهوفن، وربما كل مؤلفاته؛ وكل موسيقى شوبان على البيانو؛ وكل سمفونيات انطون بروكتر؛ وكل الكونشرتات على البيانو؛ ومقطوعة لاكامبانيلا َ أداء فرانز لست على البيانو عن الصيغة الكمانية الأصلية لها لباغانيني؛ وامسيات في جنائن اسبانيا لمانويل دي فايا؛ وقيلولة الفون لديبوسي؛ وموسيقى الفيولا داغامبا، وهي آلة شبيهة بالتشيلو، احببتها لصوتها القريب الى النواح. ولا اريد ان انسى مطلقا ً مقطوعة (إيستامب) على البيانو لديبوسي، التي اعتبرها احب مقطوعة موسيقية اليَ.
أول آلة تعرفت إليها هي العود. ولكن العود لم يعجبني إلا في حالات. كان يبدو لي أبح في صوته. ولم تعجبني آلة الكمان. كنت افضل عليها التشيلو. واحببت آلة الهاربسيكورد لمزاجيتها المرحة. لكن البيانو اصبح عندي هو الموسيقى. صرت افضله على كل شيء. واصبح هاجسي في الأداء الموسيقي، أي إنني صرت حساسا ً في إصغاءاتي لموسيقى البيانو وحكمي على إداء العازفين. فليس كل اداء يأتي على المرام تماما ً. وانا هنا استرشد بمقولة لناقد موسيقي عن بيانو ديبوسي ورافيل، حول تقنية الوهم في موسيقى البيانو عند ديبوسي ورافيل. هذه المقولة نبهتني الى حساسية آلة البيانو عند العزف عليها. وانا صرت اصغي الى عزف عازفين مختلفين عند اداء مقطوعة او مقطوعات معينة. وهذه صدعت رأسي، وتركتني في حالة يائسة احيانا ً في نشدان الكمال المرجو عند اداء هذه المقطوعة او تلك. فأحيانا ً يخيب ظني تماما ً عندما اجد مثلا ً ان اداء مقطوعة (إيستامب) لديبوسي عند عدد من العازفين مخيبا ً للآمال. أمن الممكن ان هذا العازف البارع يفشل في ان يجعلني اقتنع بأن (إيستامب) التي يعزفها، هي إيستامب التي اعرفها؟ واصبحت تشاركني هذا الهم صديقتي الهولندية روزميري هوغاكر.
لكن اهتماماتي الموسيقية تضاءلت الآن، بحكم تقدمي في السن.