6- الاسكندرية : جماليات آفلة
الاسكندرية ، بقايا المدينة الهجينة في نهاية الستينات : الأحياء العتيقة التي غادرها معظم سكانها من الإيطاليين واليونانيين تحولت الى عالم مختلف تطغى عليه تقاليد الريف في قلب المدينة الكوسموبوليتانية التي كانت تعتاش على هذا الخليط العجيب من البشر وتقدم لهم تنازلاتها من أجل بقائها وبقائهم ، أهل الموانئ تتنوع تجارتهم بين السياسة والمال والمتع والفن، ظاهر المدينة السياحي المعلن يحتمي بتاريخ باهر يعود الى عصر التأسيس.
قدّم الروائي لورنس داريل رؤيته الخاصة في رباعيته الشهيرة -رباعية الاسكندرية- بأجزائها الأربعة : جوستين ، ماونت اوليف ، كليا ، بلثازار معتمدا حسب تصريحاته فكرة النظرية النسبية لانشتاين ؛ فهو يرى أن الناس والحوادث يبدون مختلفين حسب زوايا النظر اليهم وفي أزمنة متباينة ، لكن أدباء مصر ردوا على الرباعية باسكندرية أخرى مختلفة كما يراها أدور الخراط في روايته ( ترابها زعفران) وأثبت بذلك وجهة نظر داريل عن اختلاف الحوادث والناس حسب زاوية النظر اليهم في أزمنة مختلفة ، وكذلك فعل ابراهيم عبد المجيد في روايته ( لاأحد ينام في الاسكندرية )،على ان اسكندرية داريل تبدو مختلفة تماما لأنها مثل جوهرة تشع ألواناً شتى كلما عرضتها للضوء او تعمقت في مزاجها الوجودي من وجهة نظر صانع بريطاني مولع بالغموض والرموز وكشف العاهات النفسية والمكبوتات في الشخصية العربية والأجنبية وهي تمتزج في مصهر المدينة الكبرى وتتداول المتع، أما اسكندرية يوسف شاهين فهي اكثر الروايات حضوراً وامتلاءً بالتناقضات والتفاصيل البيئية للطبقة المتوسطة المصرية : إسكندرية ليه ، إسكندرية كمان وكمان، وكـأنها الصورة المفتتة والمتشظية لإسكندرية لورنس داريل.
لعل أجمل ماتبقى من الحضارات الغابرة في الاسكندرية ليست القصور الملكية المفرطة في زيناتها وبذخها وأثاثها المذهب واللوحات الكلاسيكية المعروضة على جدرانها وحدائقها الشاسعة واطلالاتها على المتوسط ، مثلما هي ليست تلك الآثار المملوكية والمباني العثمانية والمساجد ولا عمود السواري وفنار الاسكندرية ؛ بل إن أجمل ما أثار دهشتي في المدينة هو قصر أنطونيادس وحدائقه والتماثيل الرخامية البديعة المتناثرة فيها والحديقة النباتية الشهيرة -حدائق تعلن تزاوج الثقافات ؛ فهي ليست حدائق حسب ولاهي بالمتحف المفتوح او القصر الذي تداولته سلالات الأثرياء، وليست معرض النحت الكلاسيكي المتاح لعشاق الفن حسبْ بل واحة غريبة صمدت وسط عالم مضطرب بأهواء السياسة والتعالي القومي والتغيرات وانحلال المدن الكوزموبوليتانية العظمى ؛ ففي حدائق انطونيادس تتجاور الحضارات التي تعاقبت على الاسكندرية من فرعونية واغريقية ورومانية، ولعل القصر والحدائق كانا أنموذجاً فريداً في تمازج الثقافات الانسانية مثلما تجاورت في مساحاته الشاسعة حدائق من طرز ومدارس هندسية متباينة ؛ فالحديقة الانكليزية تمتثل للطبيعة ولاتبالغ في تدخل الانسان وتمنح الشجر والمروج والأزهار النادرة حريتها في التعايش والنمو تجاورها حديقة الورد بتنسيقها الذي يكاد يكون فوضوياً حتى لتبدو وكأنها بستان ورد بري من صنع الطبيعة، على النقيض من الحديقة الفرنسية التي صُمّمت لتكون نسخة من حدائق فرساي المبالغ في هندستها وتنسيقها فلا تمنح المرء حرية التخيل والتماهي مع الطبيعة، وهنا تبرز الاختلافات بين الرؤى الثقافية الفرنسية والانكليزية ، فالفرنسي يسعى إلى الإبهار والاستعراضية بينما يتسلل الفن الانكليزي بيسر وبساطة الى الروح ويستدرجك الى الطبيعة الخلاقة الحرة ؛ لحظتها خطرت لي مقارنة الحديقة الفرنسية بأعمال مارسيل بروست وبلزاك: مدروسة بدقة رياضياتية ومحددة بصرامة، أما الحديقة الانكليزية فهي شهوية ممتعة وحرة كأعمال د.هـ . لورنس وجيمس جويس وآيريس مردوخ.