TOP

جريدة المدى > عام > فـي صحبة الكتب..الفيلسوف الذي رفضته امرأة فقرر الانتقام من البشرية (27)

فـي صحبة الكتب..الفيلسوف الذي رفضته امرأة فقرر الانتقام من البشرية (27)

نشر في: 25 سبتمبر, 2016: 12:01 ص

كانت في الحادية والعشرين  من عمرها حين أربكت استاذ الفلسفة البالغ من العمر الثامنة والثلاثين  ، عندما التقاها في روما ، استهل حواره معها  بعبارة :"من أي نجم سقط كل منا على الآخر ، كان قد ترك التدريس لأسباب تتعلق بصحته المتعبة ، راح يتن

كانت في الحادية والعشرين  من عمرها حين أربكت استاذ الفلسفة البالغ من العمر الثامنة والثلاثين  ، عندما التقاها في روما ، استهل حواره معها  بعبارة :"من أي نجم سقط كل منا على الآخر ، كان قد ترك التدريس لأسباب تتعلق بصحته المتعبة ، راح يتنقل في فنادق متواضعة بين نيس وروما ، باحثاً عن الانسان الكامل. كان يكتب في الصفحات الأخيرة من كتابه (العلم المرح) ، يكتب الى صديقه بول ري :"حيّوا تلك الروسية باسمي فأنا متعطش لهذا النوع من البشر، وسأضع نفسي قريباً فريسة لهذا النوع من الشرك ، فأنا بحاجه اليه في السنوات القادمة ". ورغم ان نيتشه كان يعتقد انه غير مؤهل للاتحاد مع امرأة  ترغب في منح الراحة الى زوجها والبيت الدافئ المريح،  لكنها تسلب وبإرادة كاملة زخم الاندفاع الداخلي للروح البطولية عند الرجل . ويكتب في مقال طريف عن الزواج ان سقراط وجد في نهاية الأمر المرأة المناسبة ، (انخا كسانتيب) القبيحة التي شجعته باضطراد مستمر على اداء مهمته العقلية حيث جعلت المنزل منفراً ، وحين كانت تطرده خارج المنزل كانت بهذه الطريقة تسهم في جعله اكبر مجادل في اثينا ، وهو يصف نفسه في ختام المقال مثل الطير الحر الذي يفضل الطيران وحيدا .
ونراه يتساءل في (زرادشت) عن معنى الزواج فتكون الإجابة انه :"فقر الروح الذي يتشارك فيه اثنان ..آه ! قذارة النفس التي يتشارك فيها اثنان ، هذا الهناء الشقي الذي يتشارك فيه اثنان ". ويضيف : "إن ما تسمونه حباً هو عبارة عن الكثير من لحظات الجنون القصيرة ، ويضع زواجكم نهاية للحظات الجنون القصيرة تلك ويستبدلها بغباء طويل الأمد " .  عندما التقى فريدريك نيتشه بـ " لو اندرياس سالومي " ، فكر اكثر من مرة ان يجرب هذه الكذبة الصغيرة المهندمة ، انه الأمل في التخفيف من وحدة الفيلسوف ، وربما الرغبة في طمأنة شقيقته  التي تراه غارقا في افكاره السوداوية ، والتي كانت تقول له دوما :"لابد ان تتزوج "، وكانت هذه الشقيقة تتقمص في مناسبات عديدة دور الخاطبة وتبحث له عن زوجة مناسبة ، وتضع أمامه كل اسبوع الكثير من المرشحات ، إلا أن هواجس الفيلسوف النزقة  كانت شديدة الغرابة . ورغم ان الحلم بالعيش داخل منزل زوجي ظل يداعب خياله ، لكنه في عام 1877 سيكتب لشقيقته الكبرى : " ارجوك لا تشغلي نفسك بالبحث كثيرا ، فإن المرأة الكاملة التي تناسبني أصبحت سلعة شحيحة " . وفي رسالة اخرى يكتب لها :"ان الزواج يخلو من المعنى ، نحن نعيش لليوم ، نعيش سريعا جدا، ونعيش بطريقة غير مسؤولة ، وهذا ما نسميه تحديدا حرية ثم تتوالى الأزمات ويتوالد الكره ويصاب الأطفال بالخسارة ، ويختتم رسالته بقوله : "ينبغي ان يمنع على الانسان حين يكون عاشقاً ان يتخذ قراراً يكون ملزماً له طوال حياته".
************
في الرابعة من عمره توفي والده الذي كان يعمل كاهناً للقرية ،  فاهتمت به أمه وشقيقاته ، وكان لذلك الجو النسائي أثره البعيد في تكوين شخصيته ، اذ نشأ رقيق الطباع ، ناعم الشخصية ، ذا طباع نسائية . وهو ما حاول تغطيته فيما بعد بأفكار فلسفية تنزع الى الشراسة والقوة . لم يمض طفولته في اللعب والمرح مثل أقرانه ، لأن أمه التي كانت ايضا ابنة لكاهن أرادت ان تجعل من ابنها خادماً للكنيسة ، فأخذت تحفِّظه الإنجيل وهو في سن الخامسة، وكانت تأخذه الى الكنيسة ليستمع الى الخطب الدينية ويحفظها. حتى ان زملاءه في المدرسة اطلقوا عليه لقب القسيس الصغير ، وتشاء ظروف هذا الصبي الذي بلغ مرحلة الشباب وهو يستمع الى وصايا امه وشقيقاته ان يعثر عام 1865 ،وبالصدفة، في مكتبة للكتب المستعملة على نسخة من كتاب  شوبنهور (العالم إرادة وفكرة) . كان فيلسوف التشاؤم  قد مات قبل خمس سنوات. ويسحره الكتاب فيقرر ان يكرس وقته كله لدراسته ، ونراه يصف شعورة وهو يقرأ شوبنهور بقوله : "وضعت كتاب شوبنهور في يدي وكان مجهولاً تماماً بالنسبة لي ، وبدأت بتقليب الصفحات . لا أعلم أية روح حارسة كانت تهمس لي "خذ هذا الكتاب الى المنزل". في جميع الأحوال هذا ما حدث ، مع انه كان مناقضاً لعادتي بعدم التعجل بشراء كتاب أبداً . في المنزل رميت بجسدي على السرير ، وبدأت بالسماح لتلك العبقرية الكئيبة بالتأثير على حياتي .كان كل سطر يصدح بالإنكار والنفي والتسليم " .
عندما أرسل رسالة الى أمه وشقيقته استبدل نيتشه الحديث المعتاد عن وضعه الصحي ، وراح يقدم لهما أفكاراً ملخصة عن فلسفته الجديدة المتعلقة بالإنكار والتشاؤم من العالم :"نعلم ان الحياة تتكون من المعاناة واننا كلما جهدنا أكثر في محاولة الاستمتاع بها ، ستزداد عبوديتنا لها ، ولذا ينبغي علينا نبذ متع الحياة والركون الى التقشف". بدت هذه الرسالة غريبة بالنسبة لأمه التي ردت برسالة تشرح فيها عدم استساغتها لذلك النوع من الآراء ،  ونصحت ابنها بأن يأكل جيداً . لكن تأثير هذا الفيلسوف لم يخمد ، وبدأ نيتشه يعيش حياته تحت ظلال شوبنهور ونراه خلال خدمته العسكرية يضع صورة لفيلسوف التشاؤم على مكتبه وكان يصيح في اللحظات العصيبة  "شوبنهور  النجدة ". في عام 1869 يحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة ، وتستدعيه جامعة بازل السويسرية لإشغال كرسي الأستاذية للغة الألمانية وآدابها ، غير ان التدريس لم يمنعه من التفكير في المساهمة الألمانية في الأحداث الدامية التي كان يخوضها بسمارك في سبيل الأمة الألمانية . وفي تلك السنوات بدأ ينجذب الى الموسيقى ، وما هي سوى أيام حتى نراه من أكبر المتحمسين لموسيقار عصره فاغنر ، كما راح يعزف في أوقات فراغه على آله البيانو بشغف ويجرب تأليف نوتات موسيقية عرضها فيما بعد على فاغنر الذي رماها جانباً . كان الموسيقار الألماني قد تأثر في بداياته بفلسفة فيورباخ ، لكنه تحول عنها بعد ان سحرته أفكار شوبنهور ، وها هو يرى  في استاذ الفلسفة الشاب نبوغاً من نوع خاص ، فقرر ان يرعاه ، فدعاه لأن يقضي عطلة عيد الميلاد في منزله، وهناك استمع نيتشه الى موسيقى المستقبل التي كان يعزفها  له فاغنر بنفسه ، وهناك ايضا كان يستمع الى الموسيقار العظيم وهو يحدثه عن آرائه في العنصر الجرمني وعن الطبقية والمسيحية . ومن هناك ، وقد سيطرت عليه موسيقى فاغنر وآراؤه في الفن والسياسة ، فيقرر ذات يوم ان يتسلق جبال الألب ليجد له مكاناً هادئاً فيكتب الى شقيقته :"لدي الآن أفضل وأروع هواء في أوروبا لأتنفسه ، طبيعة تشبه طبيعتي ، في هذه الأجواء " يضع مؤلفه الاول (مولد المأساة)، وفيه يقدم تصوره الفلسفي للآداب والفنون الأغريقية ، حيث يؤكد ان اعظم الفنون اليونانية انما كانت مزيجاً لاختلاط إيحاءات إلهين من الآلهة اليونانية هما دينيسوس وأبولو. وقد أهدى نيتشة أول نسخة من الكتاب الى ملهمِه فاغنر وكتب في الإهداء :"الى المعلم فاغنر :  سترى انني  قد حاولت في كل صفحة ان أعبر لك عن شكري على ما أفدتني إياه ، واني لأشعر والفخر يملأني بأن لي شأناً وان اسمي سيقترن دائما باسمك".   وما ان انتهى من (مولد المأساة) حتى وصلته أخبار الحرب بين المانيا وفرنسا، فطرب لذلك كل الطرب وسارع الى ترك سويسرا ليستقل القطار المنحدر الى فرانكفورت وفي نيته الالتحاق بالقطعات الحربية الألمانية  ليسجل بنفسه أساطير التفوق الجرماني ، لكن الفحص الطبي العسكري حال بينه وبين تحقيق رغبته  ، اذ وجد أن بصره ضعيف للغاية وانه لايصلح للقطعات الأمامية ويمكنه الخدمة في المواقع الإدارية للجيش . وفي الجيش بدأت الخيوط العريضة  لفلسفته تتضح  اذ يكتب لأمه بعد ان شاهد مسيرة لإحدى الكتائب العسكرية الذاهبة الى القتال :"لقد شعرت لأول مرة في حياتي بأن إرادة الحياة  في أقوى وأسمى مظاهرها ، لايمكن ان تعرب عن ذاتها في الكفاح العادي التافه ، انما في إرادة الحرب وفي إرادة القوة ، بل وفي إرادة مافوق القوة ".
************
لم يكن البحث عن زوجة لنيتشه بالأمر السهل ، واذ كانت المشكلة عائدة في بعض الأحيان الى مظهره الفظ ، فإنها ايضا كانت مرتبطة بخجله الشديد وطريقته الخرقاء في التعامل مع النساء ، لكننا نراه في ربيع عام 1876 يقع في غرام  ماتيلدا ترامبيداخ  ، فتاة  شقراء في الثالثة والثلاثين من العمر ، اثناء محادثة عن شعر هنري لونغفيلو . وبعد ايام فوجئت الفتاة بجملة طويلة يلقيها استاذ الفلسفة أمامها وعلى عجالة كأنه يريد ان يتخلص من امر صعب . كانت الجملة عبارة عن عرض للزواج :" ألا تعتقدين أن كلاً منا سيكون افضل واكثر تحرراً لو كنا معاً مما لو كان كل منا سيفعله منفرداً ، فهل تجرؤين على القدوم معي في جميع دروب الحياة والتفكير". سألها وهو يتلعثم ، لكنها نظرت الى شاربه الغليظ ثم اختفت ، بعدها تتابعت سلسلة من حالات الرفض المشابهة ، وفي ضوء اكتئابه وضعف صحته قرر ريتشارد فاغنر ان ثمة علاج واحد ممكن : "عليك ان تتزوج من امرأة ثرية " . ولم يخطر على بال الموسيقار الشهير ، ان المرأة الثرية  الوحيدة التي كان يحلم بها تلميذه هي زوجته كوزيما . فلسنوات ظل نيتشه يخفي مشاعره نحو زوجة فاغنر بحرص  تحت غطاء الصداقة ، ولم تكشف الحقيقة إلا بعد ان فقد عقله حيث كتب لها :"أنا أحبك يامعبودتي" في بطاقة معايدة أرسلها لها من المصحة  .
عام 1888 اعتقد انه وجد المرأة المناسبة "لو اندرياس سالومي" وهي حبه الأكبر والأشد إيلاماً ، فتاة جميلة وذكية ، مسحورة بفلسفته . قال لها بعد اسبوعين من تعارفهما : " لم أعد أرغب بالبقاء وحيداً أبداً " . كان في ذلك الوقت يعاني من مصاعب مالية ، لم يبع ايَّاً من كتبه سوى نسخ قليلة ، وبعض المبالغ التي  كان يحصل عليها من عائلته بالكاد تكفيه لحجز أرخص الغرف في فنادق بائسة وغالباً ما يتأخر في دفع الإيجار ، ولم يعد قادراً على دفع تكلفة طبق العشاء . وقد منحته سالومي في بداية علاقتهما الأمل الزائف ، رحلة الى مونت ساكرو. هناك اكتشفت رجلاً أشعث الشعر ، مثقل القلب دوماً ، شكاكاً ، وتدل هيئته على الجنون ، كتب الى شقيقته :"يبدو اني لم اعن شيئا بالنسبة لها ابدا". وفي الخطاب الأخير الذي ارسله الى سالومي  لم يطلب منها اكثر من شيء واحد :" أن نشعر اننا متحدان في كل ما لم تبلغه الأرواح "، ولكن حتى هذا رفضت ان تعده به، ونراها تقرر في النهاية الارتباط بالشاعر رينيه ريلكه ، الذي أراد ان يتحرش به  ويدفعه الى مبارزة من اجل تلك الخائنة الروسية .
بعد هذه الخيبات التي تركت في أعماقه جروحاً عميقة، صب غضبه على النساء في كثير من مؤلفاته. قال: " النساء يتآمرن دائماً على نفوس أزواجهن الأكثر رفعة، يردن سلب مستقبلهم منهم لحاضر مريح بعيد عن الألم " . في كتابه " هكذا تكلم زرادشت" يكتب: " يجب أن يهيأ الرجال للحرب، وأن تهيأ النساء للترفيه عن المحارب".
وقد دفعه رفص سالومي لأن يعيش في اقصى درجات اليأس ونراه يكتب وهو يعيش اقصى حالات اليأس  :"هذه اللقمة الأخيرة من الحياة كانت أصعب ما اضطررت الى مضغه حتى الآن ومازال من المحتمل ان أختنق بها ، انني أعيش الآن في عزلة تامة ومحطماً على نحو لايطيقه إنسان ، ولو لم اكتشف الخدعة الكيميائية لتحويل هذا السماد الى ذهب ، لضعت ، انني هنا أمام أفضل فرصة لإثبات انها ليست لي ، فإن جميع التجارب مفيدة وجميع الأيام مقدسة".  وبناءً على هذا بدأ بكتابة (هكذا تكلم زرادشت) الذي وصفه بأنه أهم كتاب على الإطلاق قُدم الى البشرية، فقد كان يريد ان يعبر عن كل ما بداخله دفعة واحدة، هكذا اخبر شقيقته :"احب الذين لايعرفون للحياة معنى بغير الإبادة والتدمير لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يمضون الى ماوراء القوة " .
كتاب (هكذا تكلم زرادشت) يعد من اكبر الكتب اثارة للجدل ، حاول نيتشه ان يقدمه الى المطبعة بجزءين ، وقد تأخر صدور الجزء الاول بسبب انشغال المطبعة بطبع نسخ من التراتيل الدينية ، وعندما ارسل الجزء الثاني الى الطبع رفض صاحب المطبعة ، طباعته بدعوى انه كتاب فاشل ، وكان كلام الناشر صحيحاً ، فلم يبع من الجزء الاول سوى اربعين نسخة ، حيث استقبل الكتاب ببرود قاتل من قبل المهتمين بالفلسفة ، فلم يرحب به احد بل حتى زملائه السابقين في الجامعة اعتبروا الكتاب فاشلاً لأنه  يريد ان يقتل جميع الأديان والآلهة :"لأنني عشت جميع الأخطار، فسأدفنكم بيدي انا  ،  لقد ماتت الآلهة القديمة منذ زمن بعيد ، ولقد كانت نهايتها حسنة وفرحة". ويذهب نيتشه ابعد من ذلك حين يعلن " ان الضعفاء والعجزة يجب ان يفنوا ، هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية " ، تلك هي القيم التي بشر بها زرادشت نيتشه  فليس الوجود إلا "الحياة" ، وليست الحياة إلا "الإرادة" ، وليست هذه الإرادة إلا "إرادة القوة" . بعد  ذلك نسمع زرادشت وهو يقول واعظاً :"عيشوا حياة الأخطار  وأقيموا مدنكم الى جانب الأقوياء ، وابعثوا بسفنكم الى البحار المجهولة ، ثم عيشوا حالة حرب ".
بعد  (زرادشت) عاش نيتشه مريضاً، فقيراً، شارداً، و متشرداً على الطرقات والدروب. لا منزل ثابتاً له، ولا بيت دافئاً، ولا زوجة ، ولا صديقاً ولا أنيساً ، لا شيء أبداً.. لا أحد.. وحدة مقفرة، شاسعة مترامية الأطراف. وحدة يكاد يسمع فيها أزيز الصمت يلفّه من كل الجهات. والأكثر من ذلك، هو أنه لم يكن يرى أمامه إلى أبعد من ثلاث خطوات، وها هو  يصور حالته: "ان وجودي عبء ساحق لا يُحتمل، لا استطيع أن أقرأ! ونادراً ما استطيع أن أكتب!، ولا استطيع أن أتواصل مع أي شخص على وجه الأرض!، ولا استطيع أن أسمع أي موسيقى!، أن تكون وحيداً، وتمشي" . ورغم هذه الظروف نراه يكتب لأحد أصدقائه :"من بين مؤلفاتي كلها، يحتلّ هذا الكتاب مكانة خاصة. عندما قدمته للبشرية أعطيتها أكبر هدية يمكن أن تتلقاها. ان هذا الكتاب الذي يخترق صوته أعماق القرون المقبلة ليس فقط أعلى كتاب وجد حتى الآن، الكتاب الحقيقي الذي يليق بهواء القمم والأعالي. وإنما هو أعمق كتاب انبثق من كنوز الحقيقة الدفينة الأكثر سرية. كل الظواهر البشرية تنحطّ عن علوّه الشامخ أو تقع على مسافات لا نهائية تحته.. انها بئر عميقة لا تُستنفد، وكل سطل ينزل إليها لا يمكن أن يخرج إلا وهو مليء بالذهب المصفّى والطيبة الإنسانية.."
في عام 1889 تحققت نبوءة نيتشه اذ اصيب بهزة عصبية افقدته صوابه  ، فقد انهار في ميدان في تورينو ، وحمل الى مقر اقامته حيث فكر باطلاق الرصاص على القيصر وخطط لشن حرب على الضعفاء ، قبل ان ينقل في قطار الى مصح في المانيا لتعتني به أمه العجوز وشقيقته حتى وفاته بعد أحد عشر عاماً  حيث بلغ الخامسة والخمسين.
************
 في العام 1925 نشر الزعيم النازي القسم الاول من كتابه الشهير " كفاحي " الذي قدم له بكلمة قصيرة اكد فيها ان عمله هذا جاء استكمالا لاعمال فلاسفة اخرين كافحوا ضد الضعف والغباء والجبن
في موسوعته الكبيرة (قيام وسقوط الرايخ الثالث) يخبرنا المؤرخ الالماني وليم شايرر من ان خطب هتلر كانت  تعجُّ بأفكار مسروقة من نيتشه، مثل محاكاة حبه للشعوب القديمة لا سيما توقيره للإغريق، وقد  وصل هتلر في تبجيله لمُثُل نيتشه العليا لمنتهاه، حتى إنه زعم بأن النازيين هم الصحوة العصرية للحضارة القديمة
ويضيف شايرر  أن هتلر كان  كثيرًا ما يزور متحف نيتشه في مدينة فايمر، معلنًا عن تبجيله لهذا الفيلسوف عبر التقاط صور له وهو يحدق مسرورًا في التمثال النصفي لهذا الرجل العظيم. وفي عام ١٩٣٤ زار هتلر البيت الذي تعيش فيه شقيقة نيتشه الأرملة التي تبلغ من العمر ٨٦ عامًا. التي قال عنها :  يا لها من عجوز رائعة! ما هذا الذكاء والحيوية؟! إنها حقًّا لشخصية مميزة. انظرْ، لقد أعطتني العصا التي كان يستخدمها أخوها في آخر أيامه كتذكارٍ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram