في اليوم الأول من العيد الاضحى، كنتُ قد شاهدتُ من شاشة mbc الرابعة أوبريتاً غنائياً راقصاً يتحدث عن هجرة النبي محمد من مكة للمدينة، كان العمل جميلاً، فقد ادى الفنانون أنشودة (طلع البدر علينا) بأجمل الاصوات، وتناوبت وتنوعت اللوحات وطرق أدائها، في عمل مميز حقاً، راقصون، شباب وبنات بملابس ملونة وحركات رشيقة، راقصة تغني وتنشد للمحبة والسلام مع نقر خفيف على الدفوف، وو... كان ذلك في اللوحة الأولى، لكنني فوجئت في اللوحات التالية بمظهر السيوف والرجال الغلاظ والكلمات القاسية، مشهد جعلني اتوقف طويلاً عند قضية بدت لي في غاية الأهمية، ونحن نعيش الحرب مع داعش، ونحن نحاول ان نقدم للإنسانية صورة مغايرة عن ديننا الاسلامي، ترى، ألم يكن بامكاننا أن نتقدم للعالم بصورة خارج مشهد الدم والسيف والقتل والتهديد ؟ ألا نملك رسالة أخرى؟
لا يتوقف هذا عند شعب واحد من شعوبنا العربية، أما في العراق فنحن شعب غريب الاطوار حقاً، شعب يصرُّ على الاحتفاء بالموت أكثر من احتفائه بالحياة. البكاء والدمع عنده اولى من البهجة والابتسام. النكد والتعاسة وقافلة الآلام تسري في عروقنا وتزاحمنا عند كل بهجة. يسمي العراقيون عيد الأضحى بعيد الموتى، فهم يهرعون لمقبرة وادي السلام في النجف ومقبرة الحسن البصري، لا بل إلى أي مقبرة ومرقد في صبيحة اليوم الاول من العيد، وهناك، بين القبور والرمل والهجيرة يفسدون على قلوبهم فرحة العيد، لا بل ويصطحبون معهم اطفالهم، ليبكوا ويلطموا، وصارت متوالية القصة الشهيرة: "صبّحنه بالنجف، ومن وجهنه، رحنا للمقبرة، ورجعنا للفندق، وبعدين سبحنا ورحنا لزيارة الامام، صلينه ركعتين الزيارة واندعيانلكم ورجعنه للبصرة" تسمعها من 90% من الناس، حتى لتشعر أنْ لا عيد للناس في المدينة.
لا يحتفل سكان المدينة اليوم باكثر من هذه، ومر العيد بقليل من ماء الورد وبلا كليجة وعصائر وقبلات، وكادت الحاجة لإلغاء العيد هذا أن تصبح موجبة، لأنه لم يعد أياما للفرح وتبادل السعادات. والأغرب من ذلك هو أمرُ أصحاب المواكب فقد قاموا بنصب مخيامتهم ورفعوا الأعلام السود وعلقوا الصور العاشورائية في شوارع وتقاطعات البصرة بعد اليوم الثالث والرابع من العيد، هم مستعجلون لماذا؟ نحن في الثلث الاول من ذي الحجة، لا بل مرت مناسبة عيد الغدير، العيد الأهم في حياة الشيعة العراقيين مرور الكرام، ولم نشهد احتفالات لها في الشارع، ومثل المناسبة هذه وتلك، تمر مناسبات ولادات الانبياء والأئمة دونما احتفال بها، دونما إشارة واضحة لها في شارع او واجهة مبنى أو مظهر في السوق، لماذا يصرُّ ابناء شعبنا على ترسيخ ثقافة الدم والسيف والاحتراب وقد عانينها منها الكثير؟
أيمكنني القول بأن تجارة الأحزان في العراق أصبحت رائجة اكثر من تجارة المسرات والمباهج، إذ أنني لا أجد تفسيراً لما يقوم به الغالبية، لماذا لا نجعل من اعيادنا أياماً اطول من أيام تعاستنا ودموعنا، لماذا لا نتاجر بالورد والعطور والثياب الجميلة والتعبير عنها في مناسبات الأعياد بما فيها أعياد ميلاد الائمة، لماذا لا نضيق من مساحة الآلام في حياتنا، هل نحن بحاجة الى الكم الهائل هذا من اللطم والنواح؟
ولأنني مفرط في حبي للحياة، محتفل أبدي بكل ما هو مبهج وكرنفالي، فقد أدمنت سماع الاصوات الجميلة، بما فيها أصوات المنشدين الدينين، وكثيرا ما وجدتني اتوقف، مشاهدا ومستمعاً لهؤلاء، لكنْ ما اثارني أمس كان غريبا أكثر. هل سمعتم وشاهدتم اريثا فرانكلين، المغنية الزنجية، وهي تنشد للحياة بحضور الرئيس الامريكي وزوجته، هل رأيتم الجمهور الذي رقص وتمايل وبكى، هلا حملتم أشرعة أرواحكم معي الى بحر دمع أعين هؤلاء الذين ملأوا القاعة، وشاهدتم أكفهم وهي تعلو وتصفق. هنالك مساحة للتعبير عن الحزن والآلام أبعد من جلد الذات وخمش الخدود يا أهلي.
في تغليب الحزن على المسرّات
[post-views]
نشر في: 24 سبتمبر, 2016: 09:01 م
جميع التعليقات 2
سعيد فرحان
تحية حب واعجاب لك ولكتاباتك الجميلة ولشعرك الاجمل استاذ طالب ،يبدو ان الحزن والبكاء والنواح متأصل في نفوس العراقيين وقد لاحظت ان معظم الاغاني وبالاخص التراثية وبمختلف انواعها تبدأ ب(اويلي ويايمة )ويكملها المغني بالتوجع والشكوى كما ان الاغاني ذات الطابع ا
محمد سعيد
شعب يكذب علي ذاته انه لا يريد الابداع بل التقليد الأعمى شعب تجمد في صيرورته لان الماضي تحول الي عمق ذاته ويفتخر بماضيه اكثر من اعترافه بواقع حاله وكيف يجب عليه التخلص من ماضيه السقيم انه في دوره الماضي العتيد الذي اصبح تجاره مربحه للملالي