TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نورس تشيخوف

نورس تشيخوف

نشر في: 25 سبتمبر, 2016: 09:01 م

كلما ورد اسم "تشيخوف" على البال يفِد "شوبرت"، ويليه "برامز". لا أعرف إذا ما كان هذا الهاجس شخصياً صرفاً. فموسيقى "شوبرت" ابتسامة بين دموع هادئة وديعة. وموسيقى "برامز" تساقط أوراق خريف. وكلا الصورتين تستحضران تشيخوف، أو يستحضرُهما هو، وخاصة في مسرحياته. وقصصُه القصيرة دعمٌ للصورتين. الأسى العميق روسيُّ الطابع، ولكنْ ليس من صنفِ الحزنِ الجارح الذي رعته موسيقى "تشايكوفسكي"، أو القلقِ الجارح الذي عرفته رواياتُ "دوستويفسكي". مرةً سمع "تولستوي" ثلاثية البيانو لتشايكوفسكي، فردد مع نفسه "أروسايانا حزينةٌ إلى هذا الحدّ؟" ولعله همس مع النفس لو رأى مسرحَ "تشيخوف": "أروسيانا أسيانةٌ إلى هذا الحد؟"
في معرض الفن الروسي، الذي عرضتُ له في عمودي هذا قبل أسابيع، لم نقعْ على ابتسامةٍ واحدة. وبورتريت تشيخوف من بينها ينضحُ، بالرغم من غيابِ ابتسامته، بمسحةِ الرضا، وصفاء السريرة. على أن مسرحَ تشيخوف وقصصه لا يبخلان عليك بإثارة الضحك حيناً، والابتسامِ معظم الأحيان.
على الـ"مسارح الوطنية" في "الساوث بنك" موسمٌ صغير أُعد لأعمال تشيخوف الشاب، وهنّ ثلاثةٌ: "بلاتونوﭪ"، "إيـﭬانوﭪ"، و"النورس". أحد النقاد لم يرَ صفةَ "الشاب" ملائمة، خاصة وأن تشيخوف توفي وهو في الرابعة والأربعين، فاقترح كلمة "المبكرة"، وله الحق في ذلك. فتشيخوف، في سنوات عمره المحدودة، انتزع القصة القصيرةَ والمسرحيةَ من براثن التقليد، ومنحهما الحلةَ الحديثةً التي نعرفها اليوم. ولعل "النورس" أكثرُ الثلاثة نضجاً وشهرة، ولقد شاهدتها على خشبة "مسرح أوليفيه" البالغ الرحابة. فأنت ما أن تدخل حتى تجد نفسك تحتضنُ المكان، الذي يَشغل واجهةَ المسرح كلها: طرفٌ من بحيرة داخل غابة جرّدَها الخريفُ من أوراقها، وعرّاها، وعرّانا معها، للبلل والمطر.
الأحداثُ تبدأ في بيت الممثلة "أركادينا"، ذات الخُيلاء، والتي لا تُخفي أسى دفيناً بفعل الارتياب والخوف من المجهول. حفنةٌ من المهمومين بمصائرهم كمثقفين وفنانين، يشاهدون عرضاً لعمل مسرحي لا أمل فيه، أنجزه الشاب "كونستانتين"، ابن الممثلة، وهو يتعلق بأحلامِ مجدٍ لا مدى لتحقيقه. في حين تغرق أمه ببقايا مجد، وحب، بدأت تتهرّأ وتتلاشى، مذعورةً من ذلك، ومن دبيب السنوات، ولا تكاد تلحظ تشبثَ ابنها بآخر أمل من محبتها وتشجيعها. تؤدي العرضَ حبيبتُه البريئة "نينا"، التي تتعلق به، وبآمال المسرح، ثم فيما بعد بالكاتب المعروف "تريغورِن"، حبيب "أركادينا". تهرب على موعدٍ مع المجد، في أن يلتقيا في موسكو، ولكنها تعود بعد سنتين إلى "كونستانتين" خائبةً، حبلى بطفل لا تعرف أين تولّي به. كانت "نينا" جزءاً من الأحلام التي تمليها البحيرةُ على الحالمين، وترى نفسها نورساً من نوارسها. شبكةٌ مبتورةُ الحبال من الآمال المُطفأة، خديعةُ كبارٍ لصغار، تبلغ ذروتها في انتحار الشاب "كونستانتين"؛ "هاملت" الشيكسبيري في حلته الروسية، بعد أن أنهكته الحاجةُ لحنانِ أمٍّ لا شأن لها به، والضغينةُ تجاه عاشقها، الغارق بطموحاته هو الآخر. على أن تشيخوف يقطّر الوصفةَ ببطء على امتداد عمله، في حين يلقي شيكسبير بالزخم دفعةً واحدة.
على امتداد الفصلين الأخيرين حتى النهاية، وبعد أن أنجزت الأحداثُ المأساوية إرادتها في الفصلين السابقين، لم يتوقف انهيالُ المطر على مشهد البيت، وساكنيه، وأشجار الغاب العارية، وعلينا نحن المتفرجين جميعاً.
كانت مرحلة تشيخوف المبكرة ككاتب دراما مزحومةً بالخيبات. " بلاتونوﭪ"، التي تتحدث عن معلم تُبلبل أفكاره المثالية الفودكا والخيانة، لم تُعرض في حياته. " إيـﭬانوﭪ"، عن مأساة رجل يحلم بأفكار التغيير الجذرية ولكنه يُربكها بكراهيته لذاته، عُرضت وسببت متاعب. ولم تنجُ "النورس" من ردود الأفعال السلبية، حين عُرضت عام 1887، حيث انتهى العرض بصفير الاستهجان. اختبأ تشيخوف خلف ستارة، ولم يستطع متابعة العرض المُخيّب. ولم تحقق المسرحيةُ نجاحَها الباهر إلا على يد المخرج الروسي ستانِسلافسكي عام 1898. ولعلها اليوم من أكثر مسرحيات تشيخوف حظوة في المسارح العالمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: صنع في العراق

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

 علي حسين عاش العلامة المرحوم محسن مهدي ينقب ويبحث في كتب التراث ويراجع النسخ المحفوظة في مكتبات العالم من حكايات ألف ليلة وليلة، ليقدم لنا نسخته المحققة من الليالي، يقول لنا فيها إنّ...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

التكامل الاقتصادي الإقليمي كبنية مستدامة للواردات غير النفطية

ثامر الهيمص المرض الهولندي تزامنت شدته علينا بالإضافة لاحادية اقتصاديا كدولة ريعية من خلال تصدير النفط الخام مع ملف المياه وعدم الاستقرار الإقليمي. حيث الاخير عامل حاسم في شل عملية الاستثمار إجمالا حتى الاستثمار...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram