حين دعاني أحد زملائي المثقفين للانضمام الى نخبة مثقفة ومختارة من رموز السياسة والادب والصحافة والفن اضافة الى عدد من الأكاديميين في مختلف المجالات ، أسعدني الأمر ، فالنقاش معهم في مجالات وقضايا عدة أمر ممتع ويعود عليّ بفائدة كبرى تصب في مجال عملي ،اذ استزدت من معارفهم واطلعت على ماتخبّئه رؤوس النخب المثقفة من افكار ومقترحات وخطط يمكن ان تنهض بالبلد فيما لو تم تنفيذها..
في بعض الاحيان ، كنت ألمس انحيازا الى جهات ما او اسلوب معين في التفكير لدى بعض اعضاء النخبة وكانت الافكار تتصادم وتحتدم الآراء ويختلف البعض وقد ينسحب عضو من المجموعة بعد ان يتمسك برأيه رافضا النقد والاختلاف في الرأي ..وحده ، كان يمثل ميزانا يعيد الى المجموعة توازنها ويضيء امامها درب الفهم والاستيعاب وتقبل الآراء المضادة وطرحها للنقاش الايجابي فقد كان الرجل معتدلا ووسطيا وبحرا لاتحده حدود من المعلومات القيمة والحقائق الدامغة..
بصراحة ، كنت أتخوف من تواجده بيننا لكثرة ماارتبط التطرف والفهم المنغلق باغلب المعممين ، فقد كان الرجل معمما ، لكن اطلاعي على آرائه واسلوب تفكيره وتدخله في فضّ بعض الخلافات الفكرية ، جعلني أنتظر تعليقاته قبل غيره من بين اعضاء المجموعة ، فهو من اولئك الرجال الذين يضعون النقاط على الحروف بشكل مقنع وعادل ومنصف وكان يخوض في مجالات لم أكن أتصور قربها من عالمه فهو يحفظ الشعر ويفهم في الفن ويتذوق الموسيقى ويمارس شريعة الحلال والحرام بطريقته العقلانية الخالية من التعنت الفكري والديني ، وكان يعدل بيننا جميعا في التعليق والنقاش والمديح ويغرقنا ببحر حكمته وخزين معارفه ..
لم يمضِ يوم كامل على آخر تعليقاته المشوبة بمزاح محبب في كثير من الأحيان حتى نشرت المجموعة ذاتها نبأ وفاته بسكتة قلبية مفاجئة ..وبسرعة صادمة ومباغتة لايجيدها إلا الموت ، رحل الشيخ الفاضل الجليل الدكتور العلامة فاتح كاشف الغطاء ..مستشار رئاسة الجمهورية ومدير مركز الثقلين للدراسات الستراتيجية والباحث في ميدان علم الاجتماع الديني ..رحل الشيخ المنحدرمن عائلة دينية ووطنية اصيلة والذي سار على نهج الاعتدال والموضوعية باقتدار وتميز وجد في انتقاد عيوب السياسة وفصل الدين عنها ....كان من النوع الذي يؤمن بأن ثقافتنا هي انغلاق على مفاهيم من عصور سابقة كانت فعالة آنذاك ، لكنها اليوم بلا أدنى فعالية ، ولأنه لايريدنا أن نجيب عن أسئلة الابناء بأجوبة الأجداد فقد كان يدعو الى الفهم المتجدد للأشياء والى الانفتاح على الثقافات الاخرى ، والى اعتبار الدين واحدة من تلك الثقافات القابلة للتغيير والتطور مع الزمن دون ان تفقد هويتها الحقيقية وقيمتها وتأثيرها في المجتمع ..كنا ننتظر الكثير مما وعدنا به لتصوير المرحلة السياسية الحالية والمقبلة لكننا فقدناه وفقدنا غزارة علمه ونظرته الثاقبة للحاضر والمستقبل ..
وداعاً شيخنا الفاتح الجليل ويؤسفني انني عرفتك لفترة وجيزة ومن خلال المجموعة المثقفة فقط ودون أن ألتقي بك يوما ، لكن تلك الفترة كانت كافية لأعجز عن كتابة مايفيك حقك ..وآمل ان يفعل ذلك أصدقاؤك الكثر فقد أوجعهم رحيلك ..
وداعاً.. شيخنا الفاتح
[post-views]
نشر في: 26 سبتمبر, 2016: 09:01 م