إن علاقة الصورة بالتاريخ ، متأتية من علاقتها بالزمان والمكان اللذين يُشكلان بنية كادرها أو محتواها ،ولأنهما ارتبطا في تأسيس التاريخ عبر التوثيق ، انطلاقاً من فعالية الأحداث في المكان ، وتشكل الإطار الزمني للأحداث ، مما دعا مثل هذا التجس
إن علاقة الصورة بالتاريخ ، متأتية من علاقتها بالزمان والمكان اللذين يُشكلان بنية كادرها أو محتواها ،ولأنهما ارتبطا في تأسيس التاريخ عبر التوثيق ، انطلاقاً من فعالية الأحداث في المكان ، وتشكل الإطار الزمني للأحداث ، مما دعا مثل هذا التجسيد والتمثل من الانسحاب إلى الدلالة في ما توفر ضمن الصورة من إشارات وعلامات يمكن أخذها بنظر القراءة ، باعتبارها إشارات قارّة لمعنى معيّن . وينسحب هذا على الحيوات الأخرى ، سواء كانت موضوعية أو فنية جمالية . فهي شريحة من المكان والزمان على حد قول ( سوزان سونتاغ ) أي أنها تؤسس لأبعاد واسعة في تاريخ الأشياء ، ومنها المجتمع والبلدان والأفكار .
فهي بذلك تكتسب حيويتها من حيويتيهما . من هذا يتوجب النظر إليها على وفق ما تقدمه من براهين على ماضي بعيد أو قريب أو زمن معاصر . المهم أن الصورة تتداول معنى يرتبط بالتاريخ بشكل أو بآخر . إنها لم تكن نوعاً من التخييل ، وإنما هي وسيلة للوقوف على حراك العالم وتقييمه من خلال حقائق كادر الصورة . الصورة هنا تدفعنا للتعامل مع الوجود تعاملاً معرفياً ، عبر فهم جدلية المعرفة التي تنطوي عليها ، لأنها ومن خلال محتوياتها ، تقدم لنا معرفة بالأشياء وبالمجريات التي لم نعشها قط ، أو كنا عشناها وبتقادم الزمن انمحت عن ذاكرتنا أو شابها النسيان . وبذلك تكون الصورة شاهداً على زمن منصرم ، عاكسة حيوات المكان وما يتأسس داخله من علاقات خاصة وعامّة ، سواء الطبيعية منها أو الأنثروبولوجية .
إن مسار الزمن ، بتقلباته الإيجابية والسلبية ، يعمل على فقدان الكثير من الحقائق ، بما هو ظاهرة للمحو ، فتبقى الصورة إزاء هذا عامل شحذ الذاكرة وايقاظها عبر عيّنات أكثر نصاعة وحقيقة . والأهم من ذلك ، نجدها تقدم مجموعة ثوابت ( رموز) تكون خير دالات على التوصل والاقتراب من أصول الأشياء المفقودة من حياتنا ، إنها أساساً ترتبط بالذكريات الحية والجميلة ، وذات الوقع المؤثر. فسيميائيات الصورة ركيزة مهمة وعامل اختزال للزمن بما تقدمه من تبئيرات قادرة على ثبوت حقيقة المعرفة بالأشياء ، وبالتالي استحضار مفرداتها بشكل حيوي ، بل التأسيس عليها وفق العيّنات التي يحتويها كادرها لأنها بمثابة تاريخ الأمكنة و النماذج . فالتعرّف عليها من خلال الصورة يعني التعرّف على تاريخها الممحو . فما يمكن التأكيد عليه هنا أن الصورة تقدم رؤى فلسفية تُسهم في معرفة وإدراك العالم وجدلية العلاقة بين أطرافه. فالمصوّر وحده الذي يدرك العالم حسب تصوّرات ( ميرلوبونتي) فهو من يجعلنا ندرك العالم من خلال عيّناته في الصوّر ذات السعة بالمكان والزمان ، أي بالتاريخ عامّة. إن الادراك لدى المصوّر نابع من مستوى ثقافته ومعرفته بالأشياء . من هذا تقدم فن التصوير ؛ من حِرفة للعيش إلى فن قائم بذاته . ارتكز أساساً في تحوّله على بنية معرفية ورؤيويه عند الفنان (المصوّر) .
أما ما يخص التخييل في الصورة ؛ فإنه مرتبط بالتقنية التي يحيل المصوّر من خلالها فعل أداته الفنية باتجاه خلق التأثيرات التي من شأنها الارتقاء بمحتوى الصورة ، بما يُفعّل امكانيات التعبير عن رؤى وأفكار ومنها الفلسفية المتعلقة بالعلاقة الجدلية بين الإنسان ومجاله . فبالرغم من أنها تقدم واقعاً معاشاً ومنظوراً ، لكنه لا يخلو من بنية التصوّر، أي أنها لا تبتعد عن منطق التخييل . ويتم هذا عبر اشتغال مخيّلة المصوّر ضمن تقنية الصورة ، سواء في اختيار اللقطة ، أو العناية الفائقة في توزيع الضوء والظِل . فهو خالق لعالم مرئي الآن ، وسوف يُرى في الآتي من الزمان وفق بنية معرفية جدلية للرائي البصري . إن الصورة ووفق ما ذكرنا تتعامل مع الأصل بفعل تشخيص خواصّه وممكناته الواقعية والفنية . فهي وإن اقتربت من فعل المرآة للنظر وعكس الأشياء ، إلا أنها تتخذ لها استقلالية تعبيرية بذلك ، فـ (نرسيس)مثلاً خدعته مرآة الماء ، ليس لكوّنها لم تعكس شكل وجهه ، بل هيمنة وهم الرؤى الذي وقع فيه في كوّن المرئي شخصا آخر ، لأنه لم يتعرّف على سمات وجهه من قبل . وهذا يرتبط بالجانب المعرفي حصراً من خلال البُعد الفلسفي . فهو لم ير وجهه قط ، لأنه لم ير مرآة قط . أي لم تكن له معرفة تُعينه على استخلاص البنية التي واجهته . لذا فالشبيه الذي ظهر على صفحة الماء وجده وجهاً غريباً . بمعنى ثمة قصور في فهم الذات . إن هذا يقودنا إلى معرفة الأشياء التي تقود إلى معرفة الذات ، لأننا أساساً نعرف الأمكنة والظواهر الممحوة ، أو مروي لنا عنها . فالصورة فعل معرفي يتطلب اتساعاً معرفياً . من هذا تواءم وجود الصورة كجنس في التعبير مع باقي الأجناس . لأنه اعتمد فعلاً لم يترك للصدفة تنفيذ ما يُريد تجسيده ، وإنما أخضع هذا إلى المعرفة والصدفة في رؤية المشاهِد التي تقوده نحو بئر الأسئلة ، والتي لا يتوفر جواباً لها سوى باللقطة الفنية التي تختزل المشهد بمجموع المكوّنات والرموز.
لقد أكد ( سعيد بنكَراد)على كون الصورة هي بالتحديد وليدة ادراك بصري ، فإن تمثيل الأشياء داخلها يعود إلى تحويل أنطولوجي لماهيات مادية وتقديمها على شكل علامات. من هذا يمكننا القول ؛ إن فنان الصورة ، يعمل على تشكيل كادر صورته وفق بنية خاصة تنتجها معرفة ذات نمط رؤيوي جدلي . فهو يمتلك معرفة متحركة وحيوية ، يُسبغها على منتوجه الفني عبر ممكنات الواقعي والمتصوّر والمتخيّل . إن التدخل في محتوى المشهد ، عبر ذات الصورة ، لا يعني تغيير ممكنات تفاصيل وجودها لصالح مرمى ما ، بقدر ما يضفي حركة على المحتوى ، من خلال رؤى فنية ، يوظف في انتاجها كل ممكنات الفن ( التصوير الضوئي) وبذلك ينتج الفنان عالماً مماثلاً للمعاش ، لكنه من خلال المنظور الفني والموضوعي يحمل إشارات تُثير الحوار مع المحتوى . وهذا أيضاً ما يُبقي الصورة كمنتج خالدة عبر كل الأزمنة ، لأنها تعكس حقائق التاريخ .
المصادر :
1 ــ سوزان سونتاغ /حول الفوتوغراف / حول الفوتوغراف ترجمة عباس المفرجي /
دار المدى 2013
2 ــ رولان بارت / الغرفة المضيئة / تأملات في الفوتوغرافيا / ترجمة
هالة نمر / المركز القومي للترجمة 2010 ط1
3 ــ د. نزار شقرون /معاداة الصورة في المنظور العربي والشرقي /
دار محمد علي 2009ط1
4 ــ سعيد بنكَراد / سيميائيات الصورة الاشهارية / الانتشار 2006.
5 ــ ريجيس دوبريه / حياة الصورة وموتها /ترجمة د. فريد زاهي / دار
المأمون 2007
6 ــ ميرلو بونتي /العين والعقل / ترجمة د.حبيب الشاروني / منشأة
المعارف بالإسكندرية .بدون تاريخ .