القسم الثاني
* لماذا انتقلت أسرتك إلى إنكلترا ؟- كانت في أول الأمر مجرد رحلة قصيرة ، وكان والدي يعمل اختصاصيا في علم المحيطات ،دعاه رئيس المركز البريطاني لعلم المحيطات ليجرب اختراعه الذي يقيس حركة العواصف وتيارات المحيط ولم افهم قط مايمثله ه
القسم الثاني
* لماذا انتقلت أسرتك إلى إنكلترا ؟
- كانت في أول الأمر مجرد رحلة قصيرة ، وكان والدي يعمل اختصاصيا في علم المحيطات ،دعاه رئيس المركز البريطاني لعلم المحيطات ليجرب اختراعه الذي يقيس حركة العواصف وتيارات المحيط ولم افهم قط مايمثله هذا الاختراع ، ثم علمت ان هذا المعهد قد اسس ضمن ضرورات الحرب الباردة وأحيط بالسرية التامة والتكتم والتحق أبي بالعمل في هذا الموقع السري في عمق الغابات ولم أزره فيه سوى مرة واحدة .
* هل كنت مولعاً بالقراءة في طفولتك؟
- قبل مغادرتي اليابان –كان هناك بطل خارق يدعى ( جيكو كامين ) حظي بشعبية واسعة وكنت اقف طويلا لدى بائع الكتب اتفرج على الرسومات التي تمثل مغامرات البطل في قصص الاطفال المصورة واحفظ تفاصيلها ثم اعود الى البيت وأقوم برسمها رسما دقيقا فتعمد امي الى خياطة الاوراق المرسومة لتجعل منها كتابا حقيقيا. وفي بريطانيا بدأت اقرأ كتب ( انظر وتعلم ) المصحوبة برسوم كاريكاتورية وهي كراسات تعليمية للاطفال البريطانيين مملة وسخيفة .
* حققت النجاح منذ البداية مع اول عمل روائي لك ، ولكن هل ثمة كتابات من مرحلة شبابك المبكرة لم يقيض لها ان تنشر ؟
- إثر تخرجي من الجامعة - وكنت أعمل في مساعدة المشردين غرب لندن، كتبت تمثيلية اذاعية وأرسلتها إلى محطة (بي بي سي)، رفضوا التمثيلية لكنهم كتبوا لي عبارات مشجعة ، كان عملا لم أشأ أبدا أن يطلع عليه الآخرون ..
* ما الذي أغراك لكتابة تمثيليّة إذاعية ؟
- كنت قد بدأت افكر في مهنة مستقبلية بما أنني فشلت في أن اصبح موسيقيا بعد مقابلات عديدة مع منتجين موسيقيين ، فكرت بالكتابة للإذاعة ، ثم بمحض مصادفة قرأت اعلانا عن دورة لتعليم الكتابة الابداعية يديرها الكاتب الشهير( مالكولم برادبوري ) في جامعة ايست أنجليا وغدت هذه الدورات اليوم شأنا شهيرا وراسخا لكنها كانت مثار تندرنا حينذاك ، واعتبرناها بدعة أمريكية مضحكة ، أخبرني احدهم ان الكاتب ( إيان ماكوان) كان يرتاد هذه الدورة قبل عقد من الزمن ، فأغراني الموضوع لكن للحقيقة كان الإغراء الاول هو الحصول على منحة تمولها الحكومة لمدة عام كامل فقدمت طلبا للدورة ، واستأجرت لمدة شهر واحد كوخا منعزلا وسط منطقة ( كورنوال) كان مكانا مخصصا لمعالجة المدمنين ، حسنا أريد ان اعلم نفسي مهنة الكتابة – كان ذلك سنة 1979 وبدأت افكر للمرة الاولى بالبناء الفني للقصة والتعرف على موضوعة ( وجهة النظر ) وكيف يقوم الراوي بسرد الحكاية ، وعند انتهاء الشهر كانت بين يدي قصتان قصيرتان.
* هل كتبت تلك السنة في جامعة ايست أنغليا قصتك الاولى عن اليابان؟
- نعم ، اكتشفت ان مخيلتي تتقد وتنشط عندما ابتعد عن الوسط الذي اعيش فيه، حاولت كتابة قصة تدور في لندن فكتبت عبارة واحدة ( جئت من محطة مترو كامدن تاون الى ( ماكدونالد ) وهناك وجدت هاري صديقي في الجامعة ) وتوقف القلم لم اعرف مالذي سأكتبه بعدها ، أما عندما كنت اكتب عن المكان النائي - اليابان فإن الكتابة تتدفق والقلم يمضي دونما توقف ، كانت احدى القصص عن حادثة القاء القنبلة النووية على ناغازاكي وتروى من وجهة نظر امرأة شابة ، ولقيت اعجابا وتعاطفا كبيرين من الجميع ، قالوا : مادتك الخام عن اليابان مثيرة وممتعة جدا وسوف تجد لك موقعا في عالم الادب من خلالها ،وبعد الدورة وانا لم اكتب غير بضعة قصص اتصلت بي دار نشر ( فابر ) وابلغوني قبولهم لثلاث من قصصي في سلسلة التعريف بالقصة القصيرة .
كانت خطوة ممتازة على الطريق الصحيح ، وعلمت ان ( توم ستوبارد ) و( تيد هيوز ) قد تم اكتشافهما بالطريقة ذاتها .
* هل حدث ذلك عندما شرعت بكتابة روايتك (مشهد شاحب للتلال)؟
- نعم وقد منحتني دار ( فابر ) مبلغا من المال كمقدمة عن اتعابي لأنجز الرواية في وقت محدد .
* ما الّذي يمكن عدّه نقطة شروعٍ في انطلاقتك لكتابة روايتك ( بقايا النّهار)؟
- بدأ الأمر كلّه بمزحةٍ من جانب زوجتي : فقد كنت يوماً ما على موعدٍ مع صحفيٍّ لإجراء حوارٍ معه حول روايتي المنشورة الاولى ، وقد تساءلت زوجتي بدعابة وطريقة تلقائيّة : تصوّر كم كان الامر سيبدو مثيرا للسخرية لو جاءك هذا الصحفيّ وأمطرك بوابلٍ من الأسئلة المعقّدة والجادّة ثمّ قلت له انّك تعمل مدير الخدم في هذا المنزل ؟!! . ظننّا أنا و زوجتي أنّ هذه الفكرة مدهشة للغاية ومنذ ذلك الحين وأنا مهووس بفكرة كبير الخدم الذي صار لازمةً أساسيةً في أغلب رواياتي .
* عندما ركبت الطائرة للمرة الثانية في عمر الثامنة عشرة ، إلى اين اتجهت رحلتك ؟
- ذهبت إلى امريكا، كان ذلك طموحي منذ وقت مبكر جدا ، كنت مفتونا بالثقافة الامريكية ، جمعت مبلغا من المال من عملي في شركة لمنتجات الاطفال ، في صيف1974 كنت على متن طائرة كندية كانت أرخص وسيلة للوصول إلى حلمي الامريكي ، حطت بي الطائرة في مدينة فانكوفر، ثم عبرت الحدود عند منتصف الليل ولبثت ثلاثة شهور في أميركا ، كنت أتجول بدولار واحد كل يوم / في ذلك الحين كان لدى كل شخص موقف رومانسي إزاء هذه الأمور ،وعندما تعود تقوم بجرد حساباتك قبل ان تنام او تنهار من الإرهاق كل ليلة .
* هل كنت هيبيّاً يوماً ما ؟
- أفترض انني كنت ، ولو ظاهريا ، شعر طويل مرسل وشاربان وغيتار وحقيبة على الظهر، ومن المفارقات اننا جميعنا كنا نخال انفسنا افرادا ذوي شخصيات فذة مميزة، وكنا نجوب الولايات بطريقة ( الاوتو – ستوب ) من طريق الشاطئ الباسيفيكي السريع حتى لوس انجلوس وسان فرانسيسكو ومعظم شمال كاليفورنيا.
* هل كان لك مظهر راعي بقر؟
- نعم الى حد ما ، فثمة شيء ساخر ووقح في اللكنة الامريكية .
* يبدو أن هناك نموذجا أو مثالا كنت تغرم به في شبابك ثم تبدأ بمحاكاته ، هناك شرلوك هولمز وبوب ديلان ثم كاراواك؟
- في مراهقتي كان اهتمامي منصبا على كتابة الاغاني وهو مجال بوسعي ان اكون حقيقيا فيه دون ان اقلد احدا، لانني ساتعرض لازدراء رفاقي، فلا اجرؤعلى عزف الغيتار مقلدا بوب ديلان بل علي ان اكتشف قدراتي الغنائية الخاصة ،كنت ومعي اصدقائي ندرك تماما حقيقة كوننا بريطانيين،ولايمكننا مطلقا كتابة اغان على النمط الاميركي وعندما تقول ( على الطريق ) وهي رواية كاراواك – ستواجه تحديا في ايجاد معنى مكافئ في الانكليزية لهذه العبارة وتحس بمدى كونك بريطانيا فتتخيل طرقا رمادية ملتوية تحت رذاذ المطر تفضي الى الحدود الاسكتلندية التي يغمرها الضباب بدل ان تتخيل سيارة كاديلاك على الطريق الاسطوري الاميركي السريع !! .
* فيما يخصّ روايتك الأولى المنشورة : منظر شاحب للتلال ، كيف تراها اليوم؟
- أنا مغرم للغاية بهذه الرواية ولكنّي أراها مدهشة وباعثة على الحيرة بذات الوقت : فخاتمة الرواية تبدو كأحجية PUZZLE ولا ارى اليوم فائدة ترتجى من الناحية الفنّية من وراء ترك الناس يغرقون في مستنقع أحجيات مربكة، ولكن على العموم كانت تلك تجربة أردت من ورائها مغادرة ماهو واضح تماماً إلى ماهو محيّر قليلاً ، ولكن حتّى مع هذه الفكرة فإنّ الأحجية بدت غير مرضية زمن نشر الرواية .
* ما الذي كنت تبتغيه من وراء كتابة هذه الرواية؟
- كان السارد في هذه الرواية امرأة متوسّطة العمر ولها ابنة وضعت خاتمة لحياتها بالانتحار ، وقد أشرت إلى حادثة الانتحار مبكّراً في الرواية ، وبدلاً من أن تنغمس الساردة في الحديث عن فعل انتحار ابنتها فإنّها تلجأ إلى الانغماس في تذكّر إحدى صداقاتها الحميمة في ناغازاكي في أعقاب انتهاء الحرب العالميّة الثانية . كنت أرمي إلى جعل القارئ يتساءل : لماذا نقرأ عن ذكريات الساردة بدل الانغماس في أسباب و تداعيات الفعل الانتحاريّ ؟ و كيف تشعر أزاء انتحار ابنتها ؟ . كنت أتوقع أن يدرك القارئ منذ البدء أنّ تفاصيل الفعل الانتحاريّ ستروى في سياق ذكريات الصداقة الحميمة التي تحكي عنها الساردة.
* ما الذي بعث فيك الإلهام لكتابة روايتك الثانية : فنّان من العالم العائم AN ARTIST OF THE FLOATING WORLD التي تحكي عن رسّام بات مطارداً من قبل أفكاره الداعمة للعسكرتاريا الغاربة ؟
- في روايتي الأولى ( منظر شاحب للتلال ) كانت ثمّة حبكة ثانويّة عن معلّم عجوز كان يريد إعادة مساءلة نظام القيم الذي تأسّست عليه حياته ، و قد فكّرت في هذه الحبكة و قلت سأجعل منها نقطة شروعِ لرواية جديدة عن فنّان تلوّثت حياته ببقايا أفكار نجمت عن معايشته لحقبة معيّنة في حياته . عندما أنظر اليوم إلى رواية ( فنّان من العالم العائم ) أراها قد قاربت هذه الثيمة : ( أن تشهد خسران حياتك أمام ناظريك وأنت في عمر متقدّم بفعل مهنة ما امتهنتها من دون أن تسائل روحك : وماذا عن حياتي الشخصيّة ؟ ) . عندما يكون المرء شابّاً يشعر أنّ كلّ شيء ينبغي ان يوجّه لخدمة مهنة ناجحة له في الحياة و لكنّه مع السنوات يدرك أن المهنة هي جزء من لعبة الحياة وليست الحياة بأكملها.
* تبدو معجباً بـ ( دوستويفسكي)؟!
- نعم ، أنا معجب للغاية بـ( دوستويفسكي ) و ( ديكنز ) و ( جين أوستن ) و ( جورج إليوت ) و ( شارلوت برونتي ) و ( ريلكي كولنز ) : كتّاب القرن التاسع عشر الرائعون الذين قرأت لهم أوّلاً و أنا طالب في الجامعة .
* ما الّذي تحبّه في هؤلاء الكتّاب؟
- أحبّ في هؤلاء الكتّاب أنّهم واقعيّون بمعنى انّ العالم الروائيّ الذي يخلقونه قريب بقليل أم كثير للعالم الذي نحيا فيه ، كما يمكننا ان نستغرق في أعمالهم بسهولة كبيرة للغاية حدّ أن ننسى أنفسنا !! . ثمّة ثقة محبّبة في سردياتهم التي تستخدم وسائل وأدوات السرد التقليديّ من حبكة وهيكل وشخصيّات . أريد أيضاً البوح باسم كاتب أحبّه كثيراً : أفلاطون .
* و لماذا أفلاطون ؟
- في الكثير من محاوراته السقراطيّة يتحدّث أفلاطون عن شاب يافع يتجوّل في الطّرقات ويرى في نفسه العليم بكلّ شيء ولكنّ سقراط يعمل على زعزعة اعتداده المفرط بنفسه ، وقد يبدو هذا محبِطاً ولكنّه ينطوي على فكرة ثمينة : الأفكار الجميلة صعبة المنال دوماً . يحصل كثيراً أنّ أغلب الأفراد يؤسّسون حياتهم كلّها على معتقدات محدّدة وثابتة هي في الغالب خاطئة ومضلّلة وهذه بالضبط هي الثيمة الأساسيّة في كتبي الأولى : الناس الذين يتصرّفون وكأنّهم كلّيو العلم والمعرفة ولكن للأسف ليس من سقراط يكبح جماحهم و يلجمهم ، فقد صار كلّ واحد منهم سقراطاً شخصيّاً لذاته .