في فيلمه Remember "تذكّر" (2015) يخلط السينمائي الكندي أتوم إيغويان (مخرج عالمي كندي الجنسية ارميني الاصل كانت ولادته في مصر لأسرة ارمينية عام 1960، ومنها هاجر، في العاشرة من عمره، الى كندا)، بين قصص عديدة لا رابط بينها، ان لم تكن جميعها في تناقض مع
في فيلمه Remember "تذكّر" (2015) يخلط السينمائي الكندي أتوم إيغويان (مخرج عالمي كندي الجنسية ارميني الاصل كانت ولادته في مصر لأسرة ارمينية عام 1960، ومنها هاجر، في العاشرة من عمره، الى كندا)، بين قصص عديدة لا رابط بينها، ان لم تكن جميعها في تناقض مع بعض: قصة (زف)، مثلا، ويلعب دوره الممثل الثمانيني (كريستوف بلامر)، يمكن ان نسميها، قصة منتقم. قصة "ماكس - (الممثل مارتن لوندو)"، اليهودي المقعد الذي يعيش في احدى دور المسنين في نيويورك مع (زف)، وهي قصة الناجي المقعد.
والاثنان عاشا قصة متشابهة؛ فكلاهما من الناجين القلائل من معسكر أوشفيتز الشهير، حيث تمت عمليات التعذيب. ويتظافر العجوزان في اقناعنا ان حياتهما كانت تجسيدا لمقولة (بريمو ليفي) في (الغرقى والناجون): "هل كنا نحن الذين عبرنا - قادرين على أن نفهم، ونجعل الآخرين يفهمون، ما عشناه؟" -ترجمة قحطان جاسم-. وكأني بمشاهدي الفيلم يقول بعضهم لبعض: ثمة ما هو مشترك بين القصتين، وانهما يؤلفان قصة كبرى واحدة، انها قصة الناجين من المحرقة الهتلرية قبل سبعين عاما. وهناك قصة "رودي كورلندر"، ضابط الامن في معسكر الاعتقال الرهيب، وهو من يبحث عنه "زف" و"ماكس" للانتقام منه جراء قتله عائلتيهما. والقصص الثلاثة يعيد صياغتها "ايغويان" في المشهد الختامي للفيلم؛ ليضعنا امام قصة لا اظن ان احدا قد فكر بها من قبل، انها قصة الاعتراف بالجرم، وهي ليست سوى فشل "زف" في مقاومة "التذكر".
يبدا الفيلم بمشهد رئيس، في دار المسنين، يظهر فيه "زف"، وهو يسمع اسم زوجته "روث" المتوفاة قبل اسبوع. ونفهم من حوار "زف" مع ممرضته، انه يعاني من "الزهايمر"، ونسمع ابنه يصف حالة ابيه بانها "خرف". ونقترب اكثر من توصيف حالته عندما نستمع لحواراته مع "ماكس"، رفيقه في الدار، ومنه نفهم اصل الحكاية: حكاية ماكس الذي خطط ان ينتقم لمقتل عائلتهما في معسكر أوشفيتز الخاصة بابادة اليهود في عهد هتلر. ولان ماكس مقعد وشبه عاجز، فانه يوكل مهمة الانتقام للعائلتين المقتولتين لـ"زف"، ويكتب له رسالة موسعة، هي اشبه بخارطة طريق سيعتمدها "زف" في اداء مهمته الخاصة بالبحث عن القاتل المتخفي تحت اسم "رودي كورلندر"، فيما اسمه الحقيقي "أوتو فاليش"، وكان على "زف" ان يبحث عن القاتل الحقيقي ويميزه بين اربعة يحملون الاسم ذاته: رودي كورلندر.
كل مشاهد الفيلم يضبطها ايقاع الانتقام من القاتل: لحظة هروب "زف" من دار المسنين، شراؤه مسدسا لينفذ به مهمته، الرسالة التي كتبها "ماكس"، وكانت عبارة عن خطوات مرسومة ومخطط لها بدقة لينفذها فاقد للذاكرة، او شبه المخرف، او هو كذلك بتصريح جازم من ابنه، وهو يجادل ادارة دار المسنين بعد هروب ابيه. كل شيء يدفع باتجاه ان عملية انتقام مروعة ستحدث لامحالة. ففي الرسالة، مثلا، وضع ماكس مخطط فكرة الانتقام، فيما تكفل "زف" ان يقنعنا انها كل قصة الفيلم. ففي كل جملة منها نجد نصيحة لا تقدر بثمن لاجل تنفيذ المهمة. واهم تلك الوصايا، تذكير "زف" انه فاقد للذاكرة، لاجله لا يتردد "زف" ان يطلب من بائع الاسلحة، ان يكتب له طريقة استعمال المسدس. ويذكره، كذلك، ان زوجته قد ماتت منذ اسبوع، وان عليه ان ينتقم من قاتل عائلته وعائلة ماكس، والاهم انه قد شدد على فرضية شطب اية خطوة يخطوها حتى لا يعود اليها، وان امكن فليكتب على يده عنوان تلك الخطوة. ولم يكن امام "زف" من سبيل سوى ان يلتزم حرفيا بتلك الوصايا، وكان يستعلم من ماكس في حالات عديدة عن امور تطرأ على الخطة الاساس.
ينجح "زف"، بمشاهد رائعة، في اقناعنا انه ذاهب كيهودي فقد ذاكرته، لكنه لم يفقد رغبته بالانتقام، وهو يريد ان ينهي حياته بعمل جليل، ان ينتقم ممن افلت من العدالة؛ بانزال القصاص العادل بحق من خرب حياته وقتل عائلته. كان الوعد بالانتقام سبيلا اخيرا ساعده في تجاوز محنته كعجوز في التسعين، وان يتحامل على نفسه بخطوات متعثرة، لكنها تعرف طريقها جيدا. ويصل "زف" اقصى حالات هوسه بفكرة انه يهودي راغب بالانتقام عندما يقف على راس الشخص الثاني المتخفي تحت اسم "رودي كورلندر"، وفي لحظة التنفيذ يعرف "زف" ان الرجل العاجز امامه، والمستلقي على السرير دون اية قدرة على الحركة والدفاع عن نفسه سوى انه يرفع يده اليمنى على جبهته في محاولة دفاع اخيرة، وهو يتلقى رصاصة الموت، انما هو يهودي مثله تماما وقد نجا، ايضا، من الموت في معسكر الاعتقال. وبدلا من اطلاقة الرصاص ينخرط "زف" في موجة بكاء عارمة، وهو يعتذر ممن اراد قتله.
اللافت ان "إيغويان" لا يخلط بين التفاصيل؛ فلا ذاكرة غير ما كتبه ماكس لـ"زف" في رسالته اليه، ولا تفاصيل غير ما يجب ان يعرفه "زف" عن طبيعة مهمته كمنتقم؛ فلا مشاهد مستعادة من قبل، لا ضغط على ذاكرة المتلقي بتذكر مرويات مروعة عما حدث في سجن الاعتقال الرهيب قبل سبعين عاما. انه الاقتصاد المدهش في التفاصيل، فليس هناك امر يعلو على رغبة "ماكس" بالانتقام، وهو المعزول والمرمي في دار المسنين قد فقد كل شيء سوى رغبته بالثأر. لكن "زف" لا ينجح في مهمته مادام فاقدا لذاكرته، وربما الاصح ان نتحدث عن سبب اخر يكشفه، ببراعة اخاذة، المشهد الاخير من الفيلم، وهو المشهد الاستهلالي الاهم الذي يجبرنا، نحن مشاهدي الفيلم، ان نعيد فهم وتأويل الفيلم برمته من جديد. انها لحظة استعادة الذاكرة؛ فـ"زف" الذي عثر على القاتل المتخفي، وهو غير ما سمي له، فهو ليس "أوتو فاليش"، كما ذكر واكد رفيقه، وصاحب الذاكرة، ومخطط عملية الانتقام: ماكس، انما نعرف في لحظة انهياره، لحظة اعترافه امام ابنته وحفيدته، انه كان ضابط امن في معسكر أوشفيتز، وانه قد عذب وقتل الكثير من الابرياء، وهو غير ما يعرفه عنه اقرب الناس اليه، وان اسمه هو "كونيبرت شتورم". لحظة الاعتراف هي ذاتها ذروة مقاومة التذكر عند "زف" الذي يرفض الاسم الجديد، ويصر ان اسم الضابط المعترف هو "أوتو فاليش"، فيما نسمع صراخ الضابط بوجه "زف"، ان "اوتو فاليش" ليس سوى "زف" نفسه، وانه قد اخذ الاسم – القناع لانهم جميعا "ذئاب". يسأله الضابط، رفيقه القديم: "كيف تنسى!"، ثم نسمع صوت الرصاصة بعد جملة الضابط الاخيرة: كلنا ذئاب! مشهد ساحر ينتهي بأمرين متلازمين، قول "زف" لابنه، بعد ان قتل الضابط: انا اتذكر، ثم يرفع المسدس ويضرب رأسه ولا شيء بعده سوى الظلام الحالك، ثم حاشية المشهد الاخير في دار المسنين، حيث نسمع ماكس يخبر زملاءه في الدار حقيقة ما جرى؛ كونه العارف بالامر كله؛ فهو صاحب الذاكرة، ان "زف" لم يكن سوى قناع اخفى خلفه شخصية ضابط الامن القاتل في معسكر الاعتقال الرهيب.
في "تذكر"، مثلما في افلامه الاخرى: "التقويم – 1993"، و"إكزوتيكا – 1994"، و"الآخرة الحلوة – 1997"، و"أرارات – 2002"، وغيرها "اخرج ايغويان (16) فيلما روائيا طويلا وعددا آخر من الأفلام القصيرة والتسجيلية ومسلسلات التلفزيون"، تبرز امامنا ثلاثة نقاط رئيسة تحكمت بمجمل ما انتج "ايغويان"، وهي: ان ايغويان يتخطى كثيرا فكرة الاخراج السينمائي الشائع عندنا، الى فرضية "المؤلف السينمائي". والثانية، ركونه لتقنية "فيلم داخل فيلم"، وهو امر يطغى على فيلمه الرئيس "ارارات" عن مذبحة الارمن. والثالثة، هي الحفر العميق في فكرة الضحية وتحولات الجلاد. ففي "تذكر"، مثلا، لسنا في سياق تذكر مذبحة اليهود الرهيبة، ولا يتعلق الفيلم بمشاهد منها، انما هناك تعلق بالحبكة المؤجلة حتى كشوفات النهاية، باللامفكر به، او المسكوت عنه، في عذابات الضحية والجلاد على السواء. ثمة عناية فائقة بما اهملته السينما العالمية من تصورات ومرويات، مثله الجدل الثري والخلاق بين التذكر والنسيان، ما يباعد بينهما كما لو انهما عدوان، او ما يجعلهما امرا واحدا، وهي القدرة اللافتة على مقاومة التذكر في مقابل تمرغ بنسيان عصي على الإزالة والاندثار، فيما تبدو الأقنعة صياغات اخاذة للتذكر والنسيان على حد سواء. وبالتأكيد ان الارث الشخصي لـ"ايغويان" كأرميني، ولد في المنفى، وتمرغ فيه حتى تلبسه، اثر كبير في ثراء افلامه، وبالأخص ما يتعلق منها بدلالات الضحية وتحولات الجلاد في عالمنا المعاصر.