(1-2)
قال فرويد: في مراجع كتابي الأشهر "تفسير الأحلام" تجدُ، يا بُنيّ، العمل المنسوب لابن سيرين.
قلتُ لفرويد: يظهر لي أن جزءاً كبيراً من كلام ابن سيرين، سيدي، مُختلَق موضوع على لسانه، ولعلي أجازف باستنتاج أن تأويل الحلم وفق ابن سيرين هو التفسير الشعبيّ الذي تراكَم عبر العصور ثم نُسِبَ للرجل.
قال فرويد: من الواجب إذنْ أن نعود إلى لسان العرب، ونعرف كيف فُهِمت الأحلام، من الناحية اللغوية في الأقلّ.
قلت لفرويد: الجانب اللغويّ لا ينفصل عن الجانب التأويليّ. ففي مادة "حلم" في اللسان نقرأ أن الحُلْمَ والحُلُم هي الرُّؤْيا، والجمع أَحْلام. يقال حَلَمَ يَحْلُمُ إذا رأَى في المَنام. حَلَمَ في نومه يَحْلُمُ حُلُماً واحْتَلَم وانْحَلَمَ؛ قال بشر بن أبي خازم (أَحَقٌ ما رأَيتَ أمِ احْتِلامُ؟)، ويروى أم انْحِلامُ. وتَحَلَّمَ الحُلْمَ استعمله.
قال فرويد: الرؤيا هي أول دلالات الأحلام في هذا اللسان، إذا ما فهمتُ الرؤيا vision بأنها صورة ذهنية لشيء ما، تفرض نفسها على العقل، أو أنها، كما يقول معجم لاروس، مظهر أو شكل أو تمثيل ذهنيّ نراه أو نعتقد بأننا نراه وننسب إليه القدرات الخارقة. في اعتبار الأحلام رؤيا، يَنْسب اللسانُ إليها قدرات خارقة تنبؤية، ولا يعتبرها من (اللاوعي). الحلم نبوءة على المستوى البصريّ، يلزمها التأويل، مثل كلام المتنبئين وسجع الكهان المُغلَقة على المستوى اللفظيّ التي تحتاج تفسيراً.
قلت لفرويد: يمضي المعجم قائلاً أن حَلَمَ به وحَلَمَ عنه وتَحَلَّم عنه أي رأَى له رُؤْيا أو رآه في النوم. وفي الحديث "من تَحَلَّم ما لم يَحْلُمْ كُلِّفَ أنْ يَعقِدَ بين شَعيرتين" [حبتي شعير]، أي قال إنه رأى في النوم ما لم يَرَهُ. وتَكَلَّفَ حُلُماً لم يَرَه. يقال حَلَم، بالفتح، إذا رأَى، وتَحَلَّم إذا ادعى الرؤْيا كاذباً، قال فإن قيل كَذِبُ الكاذِبِ في منامِه لا يزيد على كَذبه في يَقَظَتِه، فلِمَ زادَتْ عُقوبته ووعيده وتَكليفه عَقْدَ الشعيرتين؟ قيل قد صح الخَبَرُ أَن الرؤيا الصادقة جُزْءٌ من النُّبُوَّة، والنبوةُ لا تكون إلاَّ وَحْياً، والكاذب في رؤياه يَدَّعِي أن الله أراه ما لم يُرِهِ، وأَعطاه جزءاً من النبوة ولم يعطه إياه، والكذِبُ على الله أَعظم فِرْيَةً ممن كذب على الخلق أو على نفسه.
قال فرويد: هنا ثاني دلالات الأحلام في لسان العرب. اختلاق الرؤيا vision اختلاقاً (التَحَلّم) ليس من طبيعة الحلم بشيء. ثمة حالم يحلم وثمة صاحٍ يُنتج الأحلامَ. الحلم الأول هو الوحيد الجدير بالاعتبار بسبب أصالة رؤياه التي قد تُقارِب وتشابه النبوءة والتنبؤ. والطبيعة التنبؤية لبعض الأحلام مما نعرفه ونثق به. وأجدُ أن التفريق بين (حَلَمَ) و(تَحَلَّمَ) مفيد. ولعلي سأزعم بأن مفردة التَحَلُّمُ قد تكون رديفاً لأحلام اليقظة (rêverie) أو (daydream) بالإنكليزية.
قلتُ لفرويد: وزن (تفعّل – تَحَلُّم) هي صيغة مضاعفة وإرادة. وبهذا يمكن أن تُفهم أحلام اليقظة = التَحَلُّم بأنها "نشاط عقليّ مشغول بأفكار ملتبسة ويتوجَّه نحو هدف غامض، فيكون المرء ضائعاً في أحلام يقظةٍ لا نهائية".
قال فرويد: لعلّ أفضلُ ما نقرأ عن أحلام اليقظة، يا بُنيّ، هي معالجات باشلار. فما لديك عن الأحلام أيضاً مما قد يفيدني ويفيد باشلار نفسه؟
قلتُ لفرويد: يذكر اللسان متابعاً أن الحُلْمَ هو الاحتلام، يجمع على الأحْلامِ. وفي الحديث "الرؤيا من الله والحُلْمُ من الشيطان"، والرؤيا والحُلْمُ عبارة عما يراه النائم في نومه من الأَشياء، ولكن غَلَبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحُلْمُ على ما يراه من الشر والقبيح؛ ومنه قوله "أَضْغاثُ أَحْلامٍ"، ويُستعمل كلُّ واحد منهما موضع الآخر.
يُتبع










