تتميز روايتي الجديدة "منطقة المد والجزر"، تقول الكاتبة البريطانية سارة موس (1)، بكونها ذات خلفية معاصرة، وقد وصلتني ملاحظات من القراء تفيد بأنهم مسرورون لتحولي عن الأدب القصصي التاريخي. وأنا ممتنة بالطبع لدعمهم لي، لكني مندهشة لكون التصنيف يشكل فارقا
تتميز روايتي الجديدة "منطقة المد والجزر"، تقول الكاتبة البريطانية سارة موس (1)، بكونها ذات خلفية معاصرة، وقد وصلتني ملاحظات من القراء تفيد بأنهم مسرورون لتحولي عن الأدب القصصي التاريخي. وأنا ممتنة بالطبع لدعمهم لي، لكني مندهشة لكون التصنيف يشكل فارقاً بالنسبة للقراء. وقد قال أحدهم إن الأدب القصصي التاريخي هو تهرب، وعديم الصلة بنا.
عديم الصلة بماذا؟ بالولادة والحب والموت؟ بالتراجيديا والنهايات السعيدة، بالطموحات الثورية لدى الشباب ومسألة العمر؟ لو أردتُ التعليق على آخر التطورات السياسية، فإن الرواية، التي تستغرق كتابتها سنتين وتحتاج إلى سنة أخرى كي تُحرر وتُنشر، ليست الوسيلة الواضحة لذلك، أما الرواية التي تهتم فقط بالشهر الذي تُنشر فيه، فإنها لا تشكل إنجازاً مقارنةً بعمل الثلاث سنوات.
إن الكاتب حين يعد عملاً، فإن انشغالات اليوم هي التي ستشكل كتابته هذه. فنجد " القصة التاريخية " لولتر سكوت تدور جميعها حول بناء الأمة ومنطق الامبراطورية. وكانت عقلية القرون الوسطى في العهد الفكتوري تجعل من الحياة الريفية والعمل الحِرَفي شيئاً مبجلاً حين كان التصنيع المديني يهيمن على المشهد. وترينا هيلاري مانتل إنكلترا تحدد نفسها في تعارض مع أوروبا الكاثوليكية وتظهر كقاعدة جديدة للقوة. وحتى لو شئتُ ــ وأنا لا أشاء ــ فإني لا أستطيع أن أكتب رواية من القرن التاسع عشر، وإنما رواية من القرن الحادي والعشرين بخلفية من القرن التاسع عشر.
إن الأدب القصصي التاريخي، في أحسن أحواله، هو اختراع موروث tradition في لحظة الحاجة. فكنت، في آخر كتابين لي، أرسم صورة لبريطانيا قبل دولة الرخاء، بلد كان توقع عمر المرء فيه بالنسبة لفقراء المدن في حدود العشرينات بينما هو بالنسبة لأغنياء الريف أقرب إلى السبعين. بلد كان فيه العمال اليديون في الغالب أميين وجهلة، ولا يحق التصويت إلا للأثرياء فقط. وقد رويت قصة حول بعض الناس الذين بدأوا عملية التغيير التي أخذت شكلها النهائي في الظاهر في النصف الثاني من القرن الماضي مع تأسيس نظام الخدمات الصحية، والتعليم الابتدائي والثانوي المجاني، وحق التصويت لكل الراشدين تقريباً.
وكنت مفتونة بأنواع الحيوات التي عاشها أولئك الذين تفانوا لتغيير دولة غير عادلة على نحوٍ عنيف إلى مكان أفضل وأعدل للجميع. وأردت أن أبين لقرائي أننا قد غيّرنا هذا البلد، جعلنا الهواء نظيفاً بحيث يتنفس أطفال المدن بأمان، اخترعنا قوانين جديدة وتجريمات جديدة لحماية الأطفال من العنف الجنسي، فتحنا التعليم على مصراعيه للناس الذين لم تتوفر أية فرص لآبائهم وقدمنا الرعاية الصحية للناس الذين لا يمكنهم أن يدفعوا. هنا، أقول، هنا قصة تدور حول أناس قاموا بهذه الأمور، هنا فكرة حول الثمن الذي دفعوه، حول العمل الإنساني الذي نرميه بعيداً ونحن ندمر ميراثنا. أليس لذلك صلة بالموضوع؟
إنها لحقيقة إلى حدٍ ما أن كل التواريخ قصص وكل القصص تواريخ، لكن ذلك لا يعني أن التاريخ والقصة هما الشيء نفسه. فالتواريخ قصص لأن واقع التجربة المعاشة هو الشعور، والذكرى، و الكثير مما يبدو لاحقاً أنه الأمور المهمة التي لم تُدوَّن في حينه. أما القصص، فإنها تواريخ لأنه مهما كان شكل كتابتك تجريبياً أو كانت صيغة سردك غير عادية، فإن حبكة الرواية تكون منتهية قبل قراءتك لها. والنهاية هناك، بيدك اليمنى أو مختزنة في ذاكرة الكترونية ما. إنها منتهية، وأحد الأسباب لقراءتها: تلقّي نهاية الشخص أو الشيء غير المتيسر في الحياة الواقعية.
مع ذلك، فإن التاريخ له أخلاق. ونحن نتوقع منه أن يكون صادقاً. ويمكن أن تكون " إعادة كتابة التاريخ " اتهاماً جدياً، ولو أنه أيضاً عمل العمر لدى بعض الروائيين. أما الأدب القصصي، فله نوع مختلف من الأخلاق، أن لايكون صادقاً ــ أو في الأقل غير ممكن التحقق منه ــ وإنما أن يقدّم نوعاً ما من السرد، ربما أخلاقياً حتى؛ أن يدع القارئ يرى العالم من خلال عيونٍ أخرى. وأخلاق الأدب القصصي على الدوام تتعلق بعمل الخيال، حول القدرة الإنسانية على تخيل ما يمكن أن يكون شبيهاً بذلك إذا ما كانت الأمور مختلفة، وما الذي يشبه ذلك بالنسبة لأناس آخرين تكون الأمور مختلفة بالنسبة لهم.
إن الأدب القصصي التاريخي، إذاً، قادر على تخيل القصص المفقودة من التاريخ الشعبي. وكلنا نعرف أن التاريخ يكتبه الناجون، والفائزون، وأصحاب الأقلام والورق والوقت والتدريب لتدوين أفكارهم. ذلك هو السبب في أننا ننتهي بـ " شهر التاريخ الأسود "(2) وحلقات دراسية في " تاريخ النساء "(3)، لا لأن الناس السود والنساء ليسوا بطريقةٍ ما جزءاً من التاريخ السائد الاتجاه ( ولو أن بالإمكان الشعور بما يشبه هذا )، وإنما لأن الأصوات المهمشة تحتاج إلى نوع مختلف من الإصغاء. ومن المحتمل أيضاً أن معظم سابقينا لم يتركوا تسجيلاً لأفكارهم ــ ومؤرخو عصر الانترنت ماضون في القيام بمهمة لا يُحسدون عليها ــ لكن جميع حالات الصمت تلك يمكن أن تصبح عالية الصوت حالما يبدأ المرء بالتفكير فيها.
إن شخصية روايتي "منطقة المد والجزر" ، هي سليلة لاجئين، وحين تتعرض أمورها الروتينية العادية للانقطاع فجأةً تجد نفسها منجرَّة إلى قصص غير مروية عن والديها وأجدادها، تجد نفسها تحكي تواريخ مفقودة وغير مكتوبة بينما يضيع مسار حياتها هي تحت قدميها. فنحن بحاجة لقصص، حكايات للإبحار navigation ، لكننا نحتاج أيضاً لمعرفة أن القصص يمكنها أن تكون خطرة في الحياة الواقعية. فالقومية Nationalism قصة، أسطورة يقدم لها التاريخ الأوروبي جواباً مرضياً. والثورات تمدها بالوقود القصة. وأنا مهتمة بإعادة كتابة التاريخ لأكوّن قصصاً أصعب، لأواجه القصص السائدة في زمني، ولأصر دائماً على أنه كانت هناك باستمرار طرق أخرى للقيام بالأمور، طرق أخرى للفهم والتحرك عبر العالم.
عن/ THE IRISH TIMES
إشارات المترجم:
1. سارة موس أستاذة جامعية في اللغة الانكليزية والكتابة الإبداعية وكاتبة لها خمس روايات آخرها " منطقة المد والجزر The Tidal Zone "، وهي كاتبة تتميز بمواهب متألقة، وفقاً للنقاد.
2. مناسبة سنوية في بريطانيا، والولايات المتحدة، وكندا لتذكّر الأحداث والشخصيات المهمة في تاريخ الشتات الأفريقي.
3. دراسة في الدور الذي قامت به النساء في التاريخ والطرق المطلوبة للقيام بذلك.