TOP

جريدة المدى > عام > مدينة الحرية.. عمارة إنسانية

مدينة الحرية.. عمارة إنسانية

نشر في: 10 أكتوبر, 2016: 12:01 ص

- 1 -
 لم يزل بعد شوط في المضامير أن نستعيد إدمان المشاوير، وسرى الليالي، فالرأس ما شاخ ، ولم تنهك قوافله ناعورة الحزن ، ما زلتُ أحمل وشم مدينتي ( مدينة الحرية ) متشحا بثوبها ، وكأن زمناً سيأتي بالحقول ، ويجيءغيث يمحو عن بلادي جراح السنين ، وتع

- 1 -

 لم يزل بعد شوط في المضامير أن نستعيد إدمان المشاوير، وسرى الليالي، فالرأس ما شاخ ، ولم تنهك قوافله ناعورة الحزن ، ما زلتُ أحمل وشم مدينتي ( مدينة الحرية ) متشحا بثوبها ، وكأن زمناً سيأتي بالحقول ، ويجيءغيث يمحو عن بلادي جراح السنين ، وتعود تواريخنا الحافلة بالحلم ، وتورق الارض سنابل وزهر .

 
يعود للصديق فرات المحسن فضل في تحفيزي بما كتب عن مدينة الحرية، مدينته التي عاش شبابه فيها ، كانت الوطن الأجمل ، ونشيد الصبا، والحكايات التي لاتأفل ، قبل أن تتبعثر الأحلام ، وتتوارى الأماني،كما ان كتابات أخرى لعلي ثويني منحت المدينة معنى حب الأرض المسكونة بالفقراء ، ولعل مبادرة الأصدقاء في تشكيل ( رابطة مبدعي مدينة الثورة ) من بين الأسباب والدوافع القوية التي دعتني وشجعتني للكتابة عن الينبوع الذي نهلنا منه ماءً، وصوراً حلوة مدهشة .
مدينة الحرية ، بقايا زمن ، عمّرها أبناء المدن القريبة منها المكتظة بالسكان، والتي بدأت تضيق بهم، أهل بغداد المركز بدأوا بالبحث عن فضاءات جديدة اعتمدت طرازاً جديداً في البناء والعمارة ، فظهرت أحياء الوشاش والحارثية وحي دراغ في جانب الكرخ ، أهل مدينة الحرية وجدوا الملاذ في أرض عبد الهادي الجلبي ( النائب والوزير في العهد الملكي)، فسميت باسمه (مدينة الهادي ) ، ثم مدينة الحرية بعد تموز 58، واختصرأهلها الاسم بـ(المدينة)كجزء من هويتها ، تحادد مدينة الكاظمية من جهة الغرب، تفصلهما سكة حديد القطار بين بغداد والموصل ، اختيار المكان مثل السكن بقلب القلب ، لايبتعد عن ضياء منائر (المكان المقدس) ، مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد،هي الفاعلية التي تتسم بها الشاعرية المكانية ، كما يسميها باشلار في كتابه جماليات المكان ، أو الروحية التي تتوجه من الألفة العميقة إلى المدى اللانهائي،انه الفرح في داخلنا بمشاهدة الأشياء فنستطيع أن نرى في أشياء مألوفة للغاية امتداداً لمكاننا الحميم .في المدخل الأول يبدأ شارع ( الدبّاش) على شكل قوس مشوّه ، مع امتداد (طوفة) بستان الجلبي الطينية حسب مشيئة وإرادة النائب عبد الهادي ، وهو امتداد مخالف لهندسة الشوارع الحديثة في أحياء بغداد الجديدة التي بدأت تزدهر أواسط ونهايات خمسينات القرن الماضي ، أمّا المدخل الثاني فيبدأ من أمام مطحنة الجلبي تماماً ، على جانبيه تمتد محلة البستان ، أمّا المدخل الرئيس الثالث ، فيبتعد نحو غرب المطحنة قليلا لينتهي في الحرية الثانية بإستقامة صارمة ،خلاف الشارع الأول، على يمينه دور الشؤون الإجتماعية ، شيدتها الحكومة (الملكية) لصغارالموظفين من مدنيين وعسكريين وأسكنتهم فيها ، فضلاً عن الفلسطينيين ضحايا عمليات التهجيرالإسرائيلية بعد عام 1948 .
في المدينة شواهد ارتبطت بتاريخ تأسيسها ، (القلم طوزه)مثلاً ،وهي تحريف لاسم شجرة( الكالبتوز)التي كانت قائمة لوحدها في مفترق الطرق بين الدباش والحرية الاولى والثانية باتجاه (باتا)، وهوموقع لوكالة بيع أحذية شركة باتا المشهورة قبل إجراءات التأميم عام 1964 ، وإلى جانبها أهم ستوديو للتصوير(الشعب) المطرزة واجهته بصور الشباب من الجنسين ، كأنها فضة ضوء فيروزي ، تبدو فتنتها كغزلان راقصة ، لا أظن ان أحدا من شباب الحرية لم يتضوع بعطر التصوير بالأسود والأبيض ،ومنه يتفرع شارع المشتل نحو الفضاء الأخضر الذي دشّنه الزعيم عبد الكريم قاسم ،عام 1960، يتناثر في مسالكه العشاق يحملون باقات الحب ، وفي مرحلة لاحقة تم تشييد أحياء أخرى  لنواب الضباط ، والمعلمين ، وعمال شركة فتاح باشا اشتهر بإسم (الجمعية )، فضلاً عن منطقة البستان التي يسكنها ذوالدخل العالي نسبيا ، وعدد كبير من الكرد الذين تعرضوا لأبشع عمليات التهجيرفي نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات ،وصودرت ممتلكاتهم بعد رميهم على الحدود الإيرانية بلا ظل يؤويهم.
وشاهد آخر(ساقية النهر) كأنها حارس للبيوت  التي تتناثر على ضفافها ،ولبوابات الحرية من جهة الجنوب ، تطل عليها مقهى (ابوسلام) عبد المحسن الأميري ، عازف آلة السكسفون في الفرقة السمفونية العراقية ، أبو سلام خلاف أصحاب المقاهي ، لايعبأ بالدخل اليومي ، أو متابعة خدمة رواد المقهى ، إنما هومنصرف لمناقشة الوضع السياسي ، وآخر ما يصدر من كتب في الأدب ، فأضحى مقهاه عنوان خصوبة المدينة وثراءها الثقافي ، لإنه ملتقى نخبة من الشباب الحالمين بوطن من نور ،يوقدون الضوء في عقولهم ، ويودعون في الكتب أسرارهم وحكاياتهم ، يستريحون في كتف الساقية ،لإن مشاريع ثقافية ستولد من هناك ، وحين يكون الوطن مطارداً وممزقا ومضاعاً ، تلتم تلك الأسماء لتسهر على بقايا صفحات الكتب ، وتعلق أحزانها على مشاجب مقاهٍ أخرى ،شهد المقهى حضورا دائماً لكل من :أحمد خلف القاص والروائي ،الذي شغل موقعه بجدارة وامتياز في مسار السرد العراقي ، حميد الخاقاني الشاعر، حاتم الصكرالشاعروالناقد، عبد المنعم الأعسم الكاتب والصحفي الذي أمضى ربيعه في نقرة السلمان، نصر محمد راغب القاص الفلسطيني الذي رحل شاباً بحادث مروري ، رياض عيسى غيدان الاقتصادي والكاتب والروائي(يكتب وينشر الآن باسم رياض رمزي)،عبد الأميرالحبيب القاص، ومنهل نعمة العارضي الذي غيبته الدكتاتورية عام 1981، سليل عائلة مبدعة ، فأشقاؤه محسن ،الأديب ومدرس الكيمياء اللامع ، وعدنان ( المغيب ) أيضا الذي عُرف بعدنان شمقمق ، نسبة للدور التمثيلي الذي قام ببطولته في مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) وأبدع فيه .ويتميزالشاب منهل ، (المحامي) فيما بعد، بذكائه ومتابعته لما يصدرمن كتب وروايات ودوواين شعر، وقدرة مذهلة في الحفظ ، فضلاًعن معرفة بالإبداع الموسيقي العالمي ،كان منهل من بيننا شعلة في المعرفة ، وفتى نابضاً بالحركة والخلق الرفيع ، ومن المجموعة : عبد المحسن الزيدي (حسون) الذي اغتيل بحادث غامض ، وباقر الزيدي الذي يمضي الوقت كله بتصفح المجلات والجرائد المصرية وبخاصة ( الأهرام وصباح الخير)ومتابعة ما يكتبه محمد حسنين هيكل في عموده الأسبوعي (بصراحة) ، الزيدي قومي الهوى ، أينما يحلّ ترافقه هذه الحزمة من الصحف ، هي مصدر ثقافته الرئيس، ينشرها على الحضور كأنها مواعظ وقصائد وتراتيل وتهاليل لخطاه .ظلت ملازمة له ، مرتبطة بتاريخه السياسي وإنتمائه لحركة القوميين العرب في مرحلة الدراسة الإعدادية ستينات القرن الماضي ، رغم تحوله نحو اليسار القومي وإرتباطه بالحركة الإشتراكية العربية التي تبنت الماركسية فكراً ومنهجاً ، باقر الزيدي يثير فينا شوقاً دائماً إليه حين يغيب ، فغاب مبكراً .
بين الحين والآخر يتحول مقهى الساقية إلى ملتقى واسع يأتيه جمعة اللامي ، فوزي كريم ، عبد الستار ناصر، مقداد عبد الرضا ، عبد القادرالعزاوي ( قدوري العظيم ) عامل المخبز الشاعر الخارج من السجن تواً،لينضموا الى المجموعة المرابطة مساء كل يوم ، فتتوهج الجلسات بالحوارات والنقاشات وسط وجوه تنظر بصمت لهذه الكائنات التي خطفت الدهشة والسؤال .
تقودنا الخطى بعدها نحو ساحة عدن التي لم يزحف إليها الخراب بعد،ليروي لنا الشاعر زهير الدجيلي الحكايا والأشعار ويوقظ فينا الذكريات القاسية عن سنوات السجن ، وهو يدفع بعربة بيع الباقلاء لرواد الساحة من الطلبة والمارّة الذين يقبلون عليها وهي تتوهج بالضياء والعشب الندي الأخضر ، الدجيلي يبزغ كاتبا لامعاً يكتب عموده الإسبوعي باسم ( عبود البيدر) في جريدة صوت العمال التي تصدر عن إتحاد نقابات العمال برئاسة هاشم علي محسن قبل إنقلاب تموز68 .
مدينة الحرية ، حياة سنستمر بالكتابة عنها بحلقات قادمة ، وهذه البدايات الأولى وتتبعها أخرى ، ستفتح الباب واسعا  للإضافة أوالتصحيح وملء الثغرات من قبل اؤلئك الذين شاركونا هذه الحياة ، ونحن بالإنتظار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

تنويعات في الوضوح

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram