بعيداً عن وطنه يرحل يوسف العاني ، بعيداً يغيب وهو يستحضر وجوهاً وشوارع واحداثاً وعادات لاتمحى.. بعيدا يموت المسرحي الكبير، ابن بغداد وصورتها النقية ومرآتها التي انعكست فيها همومها وأحلامها، بعيداً يجلس لكنه حتما هو اقرب منا الى أزقة مدينته وناسها .
بعيداً عن وطنه يرحل يوسف العاني ، بعيداً يغيب وهو يستحضر وجوهاً وشوارع واحداثاً وعادات لاتمحى.. بعيدا يموت المسرحي الكبير، ابن بغداد وصورتها النقية ومرآتها التي انعكست فيها همومها وأحلامها، بعيداً يجلس لكنه حتما هو اقرب منا الى أزقة مدينته وناسها .
فحياته وأعماله جزء من تفاصيل واقع وتاريخ تتغلب فيه الذاكرة على النسيان والوطن على المنفى، من بعيد ينظرالكاتب الذي نسج ملحمته الوطنية وقال حكمته وهو اشد ثقة بنفسه وكلماته التي تخترق الواقع بلا أوهام اوأكاذيب لأنها معنية بالانسان، انساننا العراقي بنبضه ودمه، بمسيرته الشاقة وخبرته أمام الأحداث بتفاصيل حياته وأحلامه المنكسرة . فمن منا لايتذكر (دعبول البلام) و(ام شاكر) و(نوار) و(حيرة) و(الخان) بشخصياته العديدة التي اصبحت وكانها تعيش بيننا بملاحمها التي نعرفها وعذاباتها التي لاتزال تنشد الخلاص .
ولد يوسف العاني عام 1927 في محلة سوق حمادة وهي محلة فقيرة من محلات بغداد ، وقد اسهمت هذه البيئة المليئة بالأجواء الشعبية في تأسيس البدايات المؤثرة في تكوين العاني وفتحت وعيه بالمكان بأناسه وتفاصيل الحياة فيه، وليس من شك في ان علاقة يوسف العاني بالمكان الذي ولد ونشأ فيه علاقة انسان عاش حياته وتشرب تفاصيلها اليومية وتشبع هموم الناس وآمالهم حتى غدت معرفته بالمكان معرفة الخبير الذي وعى اشكالاته وادرك متطلبات ناسه .. ويبدو ان هذه الحياة اتاحت له معرفة مبكرة بواقعه وطبيعة مجتمعه..
لقد خبر الأحياء البغدادية خبرة وافية واستطاع ان يعي سلوك انسانها واوجاعه وتطلعاته وحمل خبرته هذه التي ترسبت في وعيه وكانت مخزونا غنيا ومادة لأهم اعماله المسرحية التي كتبها لاحقا وبالاخص ثلاثيته الشهيرة(الشريعة - الخان - الجسر) التي ارخ فيها مرحلة حاسمة من مراحل تاريخ العراق تلك المتمثلة بفترة الاربعينات والخمسينات وما انعكس من تاثيرها في تاريخ العراق السياسي وفي حياة الشعب العراقي وايضا في وعي يوسف العاني ورفاقه من الكتاب حين بدأت ملامح الغضب وعدم قبول مايتعرض له الشعب من اضطهاد ..
فالعاني وجيله الذي ينتمي اليه فتحوا أعينهم على احتلال لبلادهم خلق اوضاعاً غير معهودة فكان من الطبيعي ان يتعمق وعيهم بما حولهم وان تزداد درجة تحسسهم لما يمر به المجتمع من حركة وتغيير واستقبال للافكار والتيارات الجديدة، في هذه الأجواء بدأت الممارسات الاولى في الكتابة عند العاني فقد اخذ يكتب المسرحيات القصيرة ذات المشهد الواحد وهي المسرحيات التي اتسمت باعتمادها على الألفاظ الساخرة وعلى المفارقات الحياتية. هذه البداية كانت الأسلوب الذي اعتمده العاني فيما بعد في كتاباته المسرحيات الطويلة، واعني به اسلوب البحث عن المفارقات الاجتماعية التي تحمل موقفا انتقاديا من ظاهرة ما وايضا كانت تأسيساً واضحاً للاتجاه الواقعي الانتقادي في المسرح العراقي لكن هذا الميل لكتابة المسرحيات القصيرة سرعان ماتوقف بعد محاولات كتابية اشبه ماتكون بالمسرحيات ذات الفصل الواحد والتي توجها بمجموعته (راس الشليلة) التي تكاملت فيها رؤيته الفنية وتوضحت اهداف المسرح الذي يريد ان يقدمه للناس. وقد اظهرت هذه المسرحيات ان المؤلف منحاز للقضايا التي تخص الطبقة الفقيرة فالشخصيات تعاني الفقر وتشعر بالظلم الاجتماعي ومن خلال هذه المجموعة المسرحية استطاع العاني ان يرسم صورة كاريكاتورية للنظام الحاكم في الخمسينات وان يضع الجهاز السياسي للدولة هدفا للنقد وان يصور العلاقة المختلفة بين الحاكم والمحكوم في مجتمع ينخر فيه الفساد.
ليس مصادفة ان يترك هذا الرائد المسرحي متطلبات المسرح الكلاسيكي ليستعين بشيء اشبه بمفردات الحياة اليومية في وصف العالم المحيط به ليستخلص رموز الحياة من التفاصيل الصغيرة والحركات البسيطة والشخصيات الأليفة والأفعال التي قد لايأبه بها احد وهو في هذا المنحى يشبه معلمه الكبير (برتولد برشت) في العودة بالمسرح الى منابعه الاولى حيث البساطة المقترنة بالعمل الذي يصنع الحياة والجمال الذي لايتولد الا من تفاصيل عوالم المهمشين ..
ويبدو ان اعجاب العاني بمسرح برشت خصوصا في مسرحة التفاصيل استند الى توافق فكري يدعم المنحى الجمالي، فبرشت مناضل يساري تفجرت كلماته في سياق التمرد على الفاشية والنازية وقد جلبت عليه اعماله المسرحية نقمة النازيين الذين منعوا عرضها ونشرها وشرّدوا كاتبها سنوات طوال. وقد عانى العاني بسبب افكاره والتزامه على امتداد السنوات التي عاشها في وطنه وعرف مذاق السجن مثلما عرف حياة المنافي التي لم تنته بعد ويبدو انها لن تنتهي في وقت قريب لأن آلامها امتزجت بمعتقدات صاحبها الذي مضى ابداعيا في طريق اشبه بطريق برشت سواء في الالتزام السياسي النابع من المبادئ نفسها او الرؤية الجمالية التي انحازت الى عملية استنباط المعاني الكبيرة من التفاصيل الصغيرة.
ناسها المألوفون ولوازم حياتهم المهمشة. ومع هذا المسرح المغاير يبدو العاني حاد البصر والبصيرة غير غافل عن فائدة المفارقة التي تقترن بالسخرية والمعارضة او المحاكاة التهكمية محاولا شدنا الى المستقبل حيث يعبد العاني طريقا يتميز بخصوصيته الشديدة التي ابدعها عبر نصوصه المسرحية التي تقودنا الى ذلك العالم الغني الذي يتم بناؤه على تصورات من وجودنا في المكان والزمان والمشدود دائما بفيض من غناه الى معنى فعل الحياة المتمثل في فهم الكاتب لهذا الفعل والذي يؤكده دائما في اختياراته..
فعالمه يزدحم بصور الناس الذين يعشقون الحياة ويحملون على اكتافهم الحلم بحياة جديدة ويصنعون بوعي اسطورة حياتهم، مثل هذا العالم لايقدر على صياغته الا ذلك الكاتب الموهوب الذي خرج من قلب هذا العالم واكتسب مفرداته.
يرحل الاستاذ وحيداً تاركاً فينا ارثه العظيم فنانا ومبدعاً كاشفاً عن الروح العراقية حين تسعد وحين تحزن مقتحماً ذاكرتنا واثقاً من ان اعماله ونتاجاته ستبقى محل اعتزاز وطنه وفخر امته لأنها ستظل علامات مضيئة في تاريخ ثقافتنا الوطنية فما من باحث جاد يستطيع ان يتناول المسرحية العراقية دون ان يطل على (شريعة) العاني .
وما من ناقد يتجاسر على ان يتحدث عن محنة الانسان البسيط في الادب العراقي دون ان يدخل (خانه) الذي يفضي الى عوالمه الشعبية والمحببة الى النفس وما من مسرحي يمكن ان يغفل ان (المفتاح) كانت فتحا جديدا في المسرح السياسي العراقي. يموت الاستاذ بعيدا في منفاه الاختياري وهو يستذكر كلمات صديقه عبد الوهاب البياتي التي لاتموت
- يامن أغنيها
فتسألني لماذا لا أعود
لمَ تسأليني والليالي السود دونك والسدود.