تضجُ هواتفنا رنيناً، عند الساعة الثانية من مساء يوم امس الاثنين، ليفجعنا نبأ رحيل زعيم المسرح العراقي يوسف العاني، لم يُفاجئنا الموت في خياراته، لقد اعتدنا على قدرته الانتقائية العالية باقتناص أرواح عظيمة وقامات عراقية كبيرة.ورغم أن هذا المدعو
تضجُ هواتفنا رنيناً، عند الساعة الثانية من مساء يوم امس الاثنين، ليفجعنا نبأ رحيل زعيم المسرح العراقي يوسف العاني، لم يُفاجئنا الموت في خياراته، لقد اعتدنا على قدرته الانتقائية العالية باقتناص أرواح عظيمة وقامات عراقية كبيرة.
ورغم أن هذا المدعو بـ " الموت " عُدّ حقاً علينا إلا إنه يؤلمنا فنحن مجبورون على الخضوع لهذا الحق وقبوله.
بين الكثير من المكالمات الهاتفية، والرسائل الالكترونية التي تلقيتها لتنقل لي خبر رحيل العاني، أثرت بي رسالة تقول " المسرح العراقي بأكمله رحل" وهنا نشعر بغصة كبيرة، فهل تُرى مسرحنا غائب؟ أم أنه غاب برحيل العاني؟ أم أن رحيل يوسف العاني كان سبباً بفقدان تاريخ المسرح أيضاً وليس فقط حاضره ومستقبله؟ ولكن لا غرابة بأن يحمل هذا اللقب فهو الممثل والمخرج والكاتب المسرحي .
العالم كله كرم العاني محلياً وعربياً وعالمياً بجوائز كبيرة من بينها تكريم مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون ضمن اسبوع المدى الثقافي لعام 2006، كمحاولة بسيطة لرد الجميل له.
إلا أن ما يؤلمنا أن رحيل العاني كان بعيداً عن وطنه، وجمهوره ومحبيه، وما يزيدنا ألماً أن المؤسسات الثقافية الحكومية العراقية لم تلتفت لهذا الرمز العراقي خلال فترة مرضه، وما يزيدنا ألماً واستغراباً أن هنالك قامات فنية عراقية كبيرة ترفض الحديث عن العاني، وترك كلمة أخيرة بحقه بعد رحيله!
رحلة هارمونية
"رأينا فيك زمناً جديداً يدعو للارتقاء، وكنت أنت قصائد كل الشعراء، وكنت شمسا تتلألأ لتنير الأرض" ، هذا ما ذكره المخرج المسرحي صلاح القصب بحق العاني، وأضاف "يوسف العاني يا أمير الفضاء واللون، رحلتك في قارة المسرح كانت إشراقة عصرٍ مسرحي جديد مرت بمحطات متباينة هارمونياً ومشعة من مدار إلى مدار، ألهمتنا حباً أبدياً ومنها بدأ نشيدك المسرحي في قراءات خالدة، الشريعة، صورة جديدة، الخرابة، الخان ، المفتاح، نجمة، زعفران، (آنه أمك يا شاكر). شواطئ ممتدة لوجعٍ إنساني، شخوصها كانت تحاكي هضبات ألمٍ مرتفعة بحثاً عن أمل، وكانت تغني من أعماقها، دعبول يغني في حانات بغداد يصدح بالمقام وبزورقه يتجول في دجلة حاملا كل أوجاع الوطن، المفتاح رحلة أبدية بحثاً عن زمنٍ جديد، عن جغرافيا محررة من الخوف ، عن المستقبل الذي يبحث عنه حيران."
ووصف القصب العاني بأنه "النبع الصافي، وأنه من تحلق في بهاء الشمس." مؤكداً" كلنا يتشوق إلى شعاع فكرك الذي يتحرك عبر ضمائر العراقيين ومصائرهم."
رسام الشخصيات الدرامية
سيظل (يوسف العاني) أحسن من رسم الشخصيات الدرامية العراقية وكان يميل دوماً لرسم الشخصية التي يمثلها بشكل دقيق وجذاب ويأخذ صفاتها من أناس مرّوا بحياته، مثل شخصية (دعبول البلام) في (الشريعة). وهنا يذكر الفنان سامي عبد الحميد قائلاً "لابد ان نذكر ان مسرحية (الشريعة) أخرجت مرتين الأولى في السبعينات مع قاسم محمد في مسرح بغداد، والثانية في المسرح الوطني مع فاضل خليل."
ويؤكد عبد الحميد "ان اعماله المسرحية ستظل وثيقة فنية تاريخية ومرجعاً غزيراً للدارسين في الحقل المسرحي يمكن الاعتماد عليه، فهو يؤرخ مراحل عدة من حياة هذا الفنان القدير ومدى تعلقه بفنه الذي أفنى سِنيّ حياته في خدمته وخدمة الجماهير الكادحة التي انتمى إليها وراح يعبـِّر في مسرحياته عن معاناتها وعن نضالاتها من أجل مستقبل أفضل."
العصر الذهبي
واذ نودع فنانا بحجم يوسف العاني فاننا نودع مرحلة كاملة من المسرح الملتزم ذي الأصول المعاصرة لغة والتزاما وتوازنا وأسلوب تفكير ، الرافض لكل ما هو سائد ومكرور .
هذا ما أكده المسرحي الفنان فاضل خليل قائلاً" ان ما جعل العاني قريبا من الناس بأنواعهم ، هو محاكاته لهم بمختلف ثقافاتهم فأصبح له جمهوره الخاص والمعروف باسم "جمهور يوسف العاني" لذلك وجدت بأني حين أستذكر يوسف العاني، لابد لي من استذكار المسرح العراقي في عصره الذهبي الزاهي الذي ساهم العاني بوضع حجر الاساس له، غادرنا يوسف العاني وتعتصره الغصة من ان المسرح العراقي الذي شهد مجده ومجد زملائه يعاني من الاهمال والانكار."
المتجدد دائماً
لا يبدأ أيّ عمل من أعمال يوسف العاني، إلا ويحقق فكرة تجريبية جديدة، لا توجد له مسرحية تعيد نفسها أو تعيد فكرة لمسرحية سابقة، فالناقد ياسين الناصر يذكر قائلا "نكاد نحن المتتبعين لنشاط العاني المسرحي أن نقيس فن التجديد في المسرح العراقي من خلال عدد من الفنانين والكتاب والممثلين وفي مقدمتهم يوسف العاني، فإذا ابتدأنا منذ الخمسينات من مسرحيته الشهيره (آنه أمك يا شاكر)، نجد أن الصوت الشعبي الممثل بالمناضل، كان هو الصوت الطاغي على الساحة الفنية والأدبية، وكان صوتاً يخرج من خشبة المسرح إلى الجمهور، ومن الجمهور إلى المجتمع."
عمو يوسف
أبناء العاني كُثر فهو المتبني لكثير من الفنانين في مجالهم ومن بينهم الفنانة سهى سالم التي قالت " الى رحمة الله فناننا الكبير ، فبرحيلك تغيب عنا شوارع بغداد القديمة وازقتها .. ضحكاتك وحكاياتك عن الماضي الجميل التي لاتنسى وانت تسردها لنا وتستذكر وجوها لأناس ألفناها لاتعود يوما، وداعاً عمويوسف الى جنات الخلد."
يوسف العاني يغني
خسارة فادحة للمسرح العراقي، فالعاني الذي اجتمعت به الموهبة والفكر كان من أوائل المسرحيين الذين تداولوا حكايات البسطاء والمثقفين، وعمل في المسرح العراقي، والعربي والعالمي، في لبنان ومصر والمانيا وغيرها، وأجاد العاني أنى رحل، وفي كل ما قدمه، هذا ما ذكره الكاتب المسرحي عقيل مهدي متحسراً، وأشار:عندما قدمت مسرحية " البيك والسائق" قال النقاد المصريون " هذا العرض أيقظ المسرح المصري من سباته"، إضافة إلى ما قدمه من اعمال سينمائية ودرامية عريقة.
ولا ينسى المهدي عمله المسرحي عن العاني قائلاً " كان لي الشرف أن أقدم عمل مسرحي بعنوان " يوسف العاني يغني" والذي حضر فيه العاني ضيفاً وأخذ يبكي قائلاً ( انا متشتت بين حضوري كإنسان ومتابعتي العمل كفنان) وقد تناولت في هذا العمل نصوصاً مما قدمه العاني خلال كل اعماله المسرحية وكان بمثابة شكر لمسيرته."
وداًعا فنان الشعب
الحديث عن الاستاذ الراحل يوسف العاني يطول كثيرا لو اردنا الخوض في تفاصيل كثيره فهو موسوعة عراقية فنية متنوعه فهو الفنان الرائد والناقد الكاتب والممثل المسرحي العملاق، حيث يؤكد الفنان والمخرج حسن حسني قائلاً "فتحنا اعيننا في بداية نشأتنا وكان العاني امامنا هرما كبيرا في المجال المسرحي والسينمائي وكنا ننظر اليه بشغف في نهاية الستينات وما بعدها لنتمتع بما يمتلكه من قدرات هائله في التمثيل المسرحي فهو المعلم بحق."
وأشار حسني "كلما تذكر السينما العراقية يذكر اسم فيلم (سعيد افندي) ويذكر اسم بطله يوسف العاني."
خلدته النهاية
الموت حق ، هي هكذا دورة الحياة، بداية ونهاية، لكن النهايات تختلف، الفنان عزيز خيون يرى أن للعاني نهاية خالدة ويقول "يوسف العاني غادرنا جسداً، لكنه خالد في الزمن، بإنجازه المسرحي بخاصة والثقافي بعامة، خالد بيننا، يشًدُّ من أزرنا، وفي ذات الطريق، الذي اخترناه منذ البدايات الأولى، مسرحاً عراقيّاً، وثقافة عراقية."
وأكد خيون" يوسف العاني بيننا كاتباً وممثّلاً، وصحفياً ، وإداريّاً، ومثقفاً وطنيّاً، كان وما يزال."