رغم أن الحروب والمواقف المناهضة منها قد أخذت طريقها إلى غير شكل أدبي وفني معاصر، إلاّ أن غناء الروك كان له قصب السبق في هذا الجانب، فلا تهكم ولا غضب عبر الموسيقى مثلما استطاعت أغاني الروك أن تنتجه، وبذلك وسعت رقعة المناهضة لتلك الحروب والعنف الرهيب،
رغم أن الحروب والمواقف المناهضة منها قد أخذت طريقها إلى غير شكل أدبي وفني معاصر، إلاّ أن غناء الروك كان له قصب السبق في هذا الجانب، فلا تهكم ولا غضب عبر الموسيقى مثلما استطاعت أغاني الروك أن تنتجه، وبذلك وسعت رقعة المناهضة لتلك الحروب والعنف الرهيب، فضلا عن إعلاء الصوت من أجل الحرية والتضامن الإنساني. ومن تلك الموجة من الأغنيات، كانت ما وقّعها شعرا وموسيقى وغناء، الأميركي بوب ديلان، واسمه الأصلي روبرت ألين زيمرمان، المولود في ولاية مينيسوتا 1941 .
أغنيات ديلان، إذ ناهضت “فلسفة الدم” كما مثلتها الحروب، فهو كان يدعو في الجانب الآخر من فكرته إلى إعلاء شأن السلام والحب، وتهشيم قلاع العنصرية والعنف والكراهية، مثلما كان يثني على الأجيال الجديدة في افتراقها عن الدروب التي تبدأ من تلك القلاع المظلمة و”الشيطانية” كي تصل إلى نزهة فسيحة في حقول الحرية، كما كان يدعوها “النظر بغضب إلى ماض” كئيب تورثه الحرب والصراعات بين الدول والشعوب.
وكانت أغنية “تعصف به الريح” شعاراً لاحتجاجات الشباب، بل إنها دخلت في ضميرهم. ومن هنا لا تبدو مبالغة وصف مغنيها ديلان من قبل مؤرخ أغاني الروك غريفل ماركوس ممثلا لـ”أميركا الشابة”• ونقل هذا المنحى فكر ديلان نحو إحياء تقاليد الروح الاجتماعية والسياسية التهكمية التي سادت لفترة في الموسيقى الفولكلورية الأميركية وبمعاونة من وودي غاثري كاتب الأغاني الشعبية.
نصوص شعرية لا مجرد أغنيات
ويبدو أن فتوراً ما أحاط بهذه الحماسة حتى بدت الأغنيات الاحتجاجية مثل إشارة إلى “مراهقة فكرية” عند بوب ديلان، وما عاد لقب “موسيقى جيل الغضب” يجد عنده حماسة ما، وراح يكتب أغنيات مثل “السيد ضارب الطبل” و”كالحجر الدّوار” التي اعتبرها العديد من النقاد بمثابة قطع شعرية لا مجرد أغنيات، وهذا المنحى ما لبث أن تكرر في مجموعات غنائية مثل “قطار بطيء قادم” 1979 و”الذي نجا” 1980 ” و”الكفّار “1983 والتي تؤشر تأرجح ديلان بين (يهوديته) والمسيحية التي اختارها واعتنقها في السبعينات وأثّرت عليه الكتابات الدينية المسيحية “السوداء”، وانعكس ذلك على أغنياته ذات الطابع الاحتجاجي، التي غالباً ما كانت تتصدر شعارات الناشطين والمحتجين أثناء فترة المطالبة بالحقوق المدنية في بلاده والعالم.
وثمة من يرى تأكيدا على تحول روحي وديني عند ديلان، اشتراكه العام 1997 بمدينة بولونيا الإيطالية، في حفلة غنائية ضمت إضافة إليه العديد من أسماء ونجوم النغم في ايطاليا وأوروبا، وحضرها البابا يوحنا بولص الثاني، ونظمها مجلس القربان المقدس التابع للفاتيكان. وخص بوب ديلان تلك الحفلة الغنائية بثلاث من أغنياته الشهيرة: “شاب للأبد” و”مطر غزير” و”يقرع أبواب السماء”، وسبقته في الغناء مجموعة كورال كنسية حيث أنشدت أغنيته “تعصف به الريح”، ومطلعها يقول: “كم من الدروب على الإنسان أن يسلكها قبل أن يعترف به كإنسان؟”. البابا تولى الإجابة على هذا التساؤل الذي يرد في الأغنية ضمن كلمته التي قالها في الحفلة: “إنه طريق واحد فقط… الرجل له طريق واحد للسفر فيه وهو طريق المسيح الذي قال أنا الطريق”• واعتبرت هذه “المباركة البابوية” لبوب ديلان وأغنيات الروك تغييراً لافتاً في نظرة الكنيسة إلى موسيقى الروك التي طالما نظرت إليها نظرة متشككة.
هذا الموسيقي صاحب الرؤى “التحريضية” على الفعل الإنساني، كان رشّح مرات عدة لجائزة نوبل للآداب، وثمة من قال إن “الأكاديمية السويدية” قد تكسر قواعدها الرصينة وتمنح جائزتها الأشهر لبوب ديلان، وهو ما فعلته صباح اول من الخميس، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2016، “لأنه ابتكر تعابير شاعرية جديدة داخل التقليد الغنائي الأميركي العظيم”.
وكانت أوساط ثقافية ومؤسسات أكاديمية طالبت بمنح ديلان هذه الجائزة عبر ترشيحه لها، فقد كان الكاتب النرويجي ريدار أندريبو أول من اختاره مثنياً على القيمة الأدبية الصرف لقصائد وأغنيات ديلان، التي اعتبرتها أوساط جامعية العام الماضي من حيثيات ترشيحها لديلان: “من مستوى الشعر العالمي الجميل الذي يستحق كل إعجاب وثناء”. ونضجت فكرة ترشيح ديلان للجائزة مع تضامن العديد من النقاد والأكاديميين لأجل ذلك فكتب الأستاذ الجامعي “غوردون بال” أن “أشعاره وكلماته قد غيّرت تاريخ العالم ، واستطاع ديلان أن يخلق علاقات حميمة من نوع جديد بين الكلمة واللحن”•