اعتدتُ ان اسجل ملاحظات على الكتب المهمة التي اقرأ. فاذا اردت اعادة قراءة الكتاب في زمن آخر، اخرجت دفتر ملاحظاتي وقرأت ما سجلته عنه. أحياناً أراني نابهاً مصيباً واحياناً أراني ضللت وأخطأت. لكن عموم الملاحظات عن الكتاب تكون غالباً مفيدة. وهذا ما حصل لي
اعتدتُ ان اسجل ملاحظات على الكتب المهمة التي اقرأ. فاذا اردت اعادة قراءة الكتاب في زمن آخر، اخرجت دفتر ملاحظاتي وقرأت ما سجلته عنه. أحياناً أراني نابهاً مصيباً واحياناً أراني ضللت وأخطأت. لكن عموم الملاحظات عن الكتاب تكون غالباً مفيدة. وهذا ما حصل لي هذه المرة وأنا أعيد قراءة "الصخب والعنف" و " ضوء في آب " و " المختطَف " لفوكنر.. فانا ارى الادب لا قراءة أو كتابة حسب،هو أيضاً قراءة أفكار وقراءة اسلوب وبحث عن الجديد فيما نقرأ والسعي للجديد فيما نكتب.
يوم تعرفنا على فوكنر William Folkner، بدا لنا الكاتب الروائي الاكثر أمريكيةً، الأبعد جذراً في تراب وعالم وطنه الامريكي آنذاك. هو كاتب امريكي. وأميركي صفة لكتابته لا اختلاف عليها. الكتّاب الآخرون، على اختلاف مستويات قدراتهم وحساسيتهم وفنهم الروائي، ما استطعنا ان نميزهم كثيراً عن الكتاب الاوربيين. علماً ان عدداً من أولئك الكتّاب عادوا لاوربا وفي حقائبهم مخطوطات كتبوها هناك الا انهم يفتقدون ما امتلكه فوكنر. غضّوا النظر، لم يهتموا اهتماماً عميقا بما يسمى روح المكان وأعماقه . المكان في الرواية الفرنسية، تلك الحقبة، والانكليزية، كان مكاناً يمكن ان يكون في أية بقعة بلا خصوصية وطنية واضحة. ثمة معجبون في العالم بكتّاب، فنانين من مختلف المراحل والبلدان. لكن الاهتمام الذي حظي به فوكنر والاعجاب الواسع، يحتاجان الى ورقة وقلم لتثبيت الاسباب لا الاعتماد على عبارة "كاتب كبير" التي يمكن نقلها من كاتب الى كاتب مثلما تُنقل كلمة "شكراً" ..
"الصخب والعنف" بالانكليزية Sound and Fury، وبالنسبة لي ترجمة العنوان الى حد ممكن، جميلة وان كانت ليست دقيقة جداً. ولكن هذا ربما اقصى ما يمكن ان يبقي العنوان في الترجمة مقبولاً وجميلاً. فاذا رضينا بـ Sound على أنها صخب، فرضانا لا يستند الى قناعة كاملة لترجمة Fury بـ العنف لانها تعني الغضب الشديد، تعني احتدام الغيظ .. مهما يكن تلك هي الصيغة الفضلى التي اعتمدت لاستيعاب المضمون واحتفظت بجمال العبارة .. أما روايته Sanctuary ، "الملاذ" او الملجأ، فلا اظنها ترجمت الى العربية. أمّا ضوء في آب Light in August فقد صدرت اولا عن دار المأمون ايامَ كنتُ عضواً في لجنة النشر وقد ترجمها الاستاذ عطا عبد الوهاب. اما روايته القصيرة "المختطَف" فلا اظنها ترجمت الى العربية ..
نقدياً، ما صنعه فوكنر انه اوجد كابوساً كبيراً من الغضب والخطيئة يخترقه بين حين وحين ضوء من الرحمة او خيط انسانية يجعلنا لا نحتمل الفعل حسب ولكن ننعم به ايضاً. فوكنر لم يكذبْنا، قدَّمَ الواقع ، والواقع الامريكي في زمنه، كما هو بالنسبة لاعداد غفيرة من البشر الذين اصطخبوا في تلك القارة. عالم فيه الكثير جداً مما يرعب ويحزن ومن السلوكيات الشائنة والنفوس المنفلتة صعبة الشفاء. هو العالم الذي نحن فيه او الذي نتوقعه ونحن نغامر او نقتحم لنعيش. هذه التعاسات والشناءات الشرسة في العالم المعيش، تجعل الكثيرين يطلبون من الكاتب ان يوجد حلاً. هذا بالنسبة للصالحين من الناس أما الخطاة والمأزومون والتعساء، فيصرخون: هو هذا العالم! آخرون يقرأون هذه الروايات ويقولون مع انفسهم: دعنا نفكر، فاما لا وجود لله او ان الكاتب يسخر منا.
وهنا يكون مفيداً ذكر "فرانسوا مورياك" الفرنسي. فنحن نجد في رواياته حزناً وألماً ولكنه حزنٌ مسيحي وأسى تقرب منه الرحمة. هناك انسانية قابلة للاصلاح وفرصة لتهذيب الميول الخاطئة. فوكنر تجاوز هذا الافتراض ليقول : لاصلاح. أو صعبٌ صلاح بشر أو واقع مثل هذا . فوكنر لم يحاول ان يكون تبشيرياً. هو رصد فعل الغرائز في واقع عيش وفي ظروف شائكة المطامع. شخوص فوكنر متوحشون، قساة متعطشون للدم وآثمون. وكلما زادة رداءاتهم، ضعف حضور الله أو تناءى عنهم .
لستُ ناقداً روائياً لتشغلني فنيات الاسلوب. انا معني بالمدى الفكري للرواية. وهذا ما يعنيني، عادةً، من الكتّاب الكبار خلافاً لما اهتم به أكثر في الشعر. من هنا متابعتي لشخوص رواياته وسلوكهم : التوحش والقسوة وقذارة الافعال تأخذ مداها في غياب القوة الرادعة. عالمه ممتلئ بالمخلوقات الشائهة واحيانا البشعة. لا يطاوعنا الكلام على وصفهم بالبدائيين ولا يسهل علينا القول بانهم من عصرنا، ولكنهم كذلك! هذه المسألة في رأيي، كمتتبع فكري، هي مصدر اهمية روايات فوكنر : هل هو عصرنا وهؤلاء فيه ؟ ما هو أذن فعل التقدم والحضارة ؟ أمعهما ويظل التوحش والرغبة الشنيعة بالدم والعنف ؟
مثلما كان ذلك مركز روايات فوكنر وثيمته الاساس، هو وسَّع من مدى قرائها. كشف واقعاً قد نواجهه في أي وقت. هو يجعلنا إثر القراءة غير مطمئنين مما نرى، غير راضين عن واقع العالم.
هنا العمل لا يبقى روائياً محدوداً. هو يقول لنا الرداءة تتحكم بنا ونفوسنا ليست نقية حتى الان. هو طرح فكراً واجه الناس بما حاولوا الاستهانة به وألّا يروه. بل ان يُضعفِوا شرّه بما يهب الله من محبة ومن هدايةً للخاطئ ، وهذا احتمال اظهره فوكنر ضعيفاً!
هذا هو التحول الفكري الذي احدثه فوكنر بالنسبة لروايات المجتمع المسيحي. ونحن هنا إذا لم نتعاطف او نخشَ او نفهم الظواهر البشرية وجذور معطياتها، فاعماقنا بفعل الرواية، وجدت ما يعبر عنها. وأولاء القراء، المنتبهون له، هم مدىً اجتماعي مضاف للعمل الروائي. العمل بهذا التوجه كان امريكياً وقد لامس المجتمعات في الأمكنة الاخرى. المجتمع الامريكي في زمنه، وربما حتى الآن، ما يزال يسمح بمثل هذا وكان يتطلب نتاجا وافكارا مثل هذين.
كان لأعمال فوكنر في اوربا: بريطانيا، فرنسا، المانيا وقع الاعتراض على السائد. في تلك البلدان الاوربية كانت المسيحية تفرض اجواءها او وصاياها. لا نبتعد في رواياتهم عن المدى الكنسي في الحلول. اتضح هذا اكثر من بعد، وقريباً منا، عند هنريش بول ..
اسلوب فوكنر يلائم افكاره ويلائم شخوصه. كان يحتاج إلى الغموض. تصرفات الشخوص، نزواتهم والغرابة السيئة لسلوكهم غير واضحة الاسباب. ليست الحاجة وحدها السبب. ليس هو الارث الباقي من التوحش وعدم المدنية. وليس هو انغلاق الافق وافتقاد الامل. ولكن يمكن ان تكون هذه كلها. اجتماعها يؤكد غموض الاسباب من ثمَّ غموض التعبير عنها. من يقل ان اسلوب فوكنر واضح، لم يفهم فوكنر وانما قرأ لغة انكليزية مفهومة ! مع ذلك يبقى التساؤل وارداً ومطلوباً : هل وراء اسلوبه هذا واقع فني ام هي رغبة في تغليف افكاره وحجبها في شكل مصطنع ؟ ربما الاثنان. الفن لا يبقى غائياً..
ثمة ملاحظة في احد المؤتمرات، ان الاحداث في روايات فوكنر غير خاضعة لتسلسل او نظام . وفسر السبب بأن فوكنر ما كان يعترف بالزمن اعترافَه بالحدث. هو باختصار يرى الانسان بنزعاته ، بشرّه القديم ورداءاته. هو كما هو، يعيش في مدينته حتى اليوم وهو كذلك في كل العالم.
ختاما هذه ملاحظتي الاخيرة:
فوكنر قدم عالمنا التراجيدي مع ذُؤابةٍ عذبةٍ من ضوء الشعر ...