أتمثل مؤيد الراوي أمامي، الآن، مستنكراً غيابه.. أحاوره مثلما حاورته طويلاً، في بيروت ولندن، وأتينا على كل ما أتيناه، أنا المعجب به وهو الذي لم يشأ أن يكون، معي، النجم... نجم الشعر والفن والصحافة والنضال ، بل الصديق والإنسان المترفع عن الصغائر، إلا في ما يقع في باب الدعابة والفكاهة، وهي المرة الثالثة التي أكتب فيها عنه، الأولى عام 1978، ولم أكن تعرفت عليه شخصياً، فأنا في بغداد المذبحة وهو في بيروت الحرب الأهلية، إذ شغفني ديوانه (احتمالات الوضوح) فكتبت عنه في صحيفة "الفكر الجديد" البغدادية، وعندما توجهت إلى بيروت، هارباً من غابة الفاشست، كان بيت الراوي وجهتي.
مؤيد واحد من قلة قليلة جداً أمسك بالخيط غير المرئي بين الشاعر والشارع، ولم يتنازل عن شرطي الطرفين، بلغته الخاصة ورؤيته المتفردة للشعر فعاليةً، كما السرياليون، لتغيير الحياة وليس لتغيير الواقع، حسب، ومناضلاً باسلاً دخل السجن مبكراً وغادر وطنه باكراً، نائياً بضميره عن مستنقع الدم والوحل.
عملت مع مؤيد في "رابطة الكتاب والفنانين والصحافيين الديمقراطيين العراقيين" ببيروت.. كان فيها مؤيد المثقف الهادئ، الغاضب، المتأمل، المتوتر، العضوي، المستقل، الشيوعي، السريالي، وكل اختلاطات المثقف الحائر بذاكرته ووعيه ووطنه ومنفاه.
مؤيد الدافئ والمتواضع والطريف والكسول.. من طرائفه:
عرض علي نصاً بخط يده، وهو الخطاط أيضاً، فلم أتبين إحدى الكلمات.. هل هي "يتفرق" أم "يتفيهق" أم "يتدفق" أم؟
لأن نقاط الكلمة جاءت متجمعة مثل كتلة أعلى الكلمة.. سألته: لم أستبن هذه الكلمة.. فرد ضاحكاً: بل "يتفتق".. وضعت النقاط متجمعة هكذا لفرط العجلة والكسل.. وزعها أنت براحتك أيها القارئ اللبيب.. وضحكنا معاً.
بمناسبة الذكرى السنوية الأولى أقدم وجه مؤيد الشعري في قصائد من ديوانه الأول "نزهة في غواصة".
حالات
اتهم حالاتي الصغيرة : انها تتظاهر
حول فواكه البيوت
اُوجّه التهمة لحدائقي المغرقة
عند محطات
الرجل
والسيدة
الأنيقة.
عن أمتعتي، الخيالية، وأعشاب حذائي لا يكتب أحد،
ويشرح: السفر يغرق نفسهُ في السفر.
بينما لي غرفة
ثمَّ تقودني
نحو الشارع لدي أرجل العصافير
ونحو الشارع رقم 60019
تقودني/ برغبة/ نحو بقاع معزولة.
2 ـ
الغربة تركب طائرة الوجه. وتطبخ فواكه.
3 ـ
بعض حالاتي عندما يدعوني إلى حفلة
يملأ جوفي بالقطن.
اُركّب على عيني زجاج الجرح.
ماعدت، بالتأكيد، أتوهم
شموس البحر.
4 ـ
وقفت امرأة على الجسر.
عادت امرأة من الجسر.
في المراقبة تعودت أن اكون الطائر والماء
وبانحنائي أطفأ القاع اسم النزيف
للمخاوف القديمة
5 ـ
قد أتعلم من الايام/كما تقولون
قد أتعلم من الايام الـ60 إن الخائف ضروري
وقد لا أتعلم:
حالات المدن.
قط.
قصائد للضيوف
1
ضع يدك في الليل
ثم ضعها في النافذة كمشجب
تنبت.
2
قيثارة الأسماء جلبت لي صحارى
وقشرت جلدي (نقوداً عبأت في جسد طفل)
اتوهم النوم
في المكسيك،
بين موائد متباعدة كعظم الكلس.
3
هذه وثائق (س. بن يوسف)
وتاريخ الوثائق
السياسية تنحت فواصل القطر كعائلة
تتكون من الحديقة والصغار المعاصرين الذين
أهملتهم الوثائق.
تأكد بأن الوثائق تدين (س. بن يوسف)
كعارية
إن الوثائق لا تدين الجوارح الصغيرة في السماء
لأنها مثل عين ترتدي
حقوق البراءة.
4
أطلقُني داخل أزمان دمي
أنا مؤيد
أترسب في ذهن الغرفة
وأُحمَل عبر سيقان الهواء: جثة
معي
أطلقُ تساقط النجوم
والإيقاع الأصفر للصديق القادم
حدائقي
إذن حدائقي.
***
لروح مؤيد الحية، أبداً، في ذكراه تحية واحتفاء بصداقة الشعر والكفاح.
مؤيد الراوي.. يتنزه في غواصة
[post-views]
نشر في: 17 أكتوبر, 2016: 09:01 م