اختتام دورة مهرجان لندن السينمائي الـ60
بعد إعلان جوائز مسابقاته الرئيسية في حفل باذخ إستضافته بلدية لندن ليل يوم السبت الماضي، يكون مهرجان لندن السينمائي وبالإشتراك مع "أمريكان أكسبريس"، من 5 ولغاية 16 تشرين الأول/أكتوبر من الشهر الجاري، قد
اختتام دورة مهرجان لندن السينمائي الـ60
بعد إعلان جوائز مسابقاته الرئيسية في حفل باذخ إستضافته بلدية لندن ليل يوم السبت الماضي، يكون مهرجان لندن السينمائي وبالإشتراك مع "أمريكان أكسبريس"، من 5 ولغاية 16 تشرين الأول/أكتوبر من الشهر الجاري، قد أسدل الستار على أعمال دورته الـ60. هذه الدورة الإستثنائية، وما جادت به من خيارات سينمائية واسعة ومبتكرة تكاد تقارب أغلب قضايا عصرنا المعولم وموزعة على فقرات برنامج المهرجان العشرة، جاءت لتؤكد قوة حضور هذا الفن وصنيعه الصوري في إرتياد عوالم وفضاءات وإنتهاك حرمات بما لا يتوافر لفن شعبي آخر.
ولعل توقيت إنطلاق فعالياتها في بداية خريف كل عام، يمنح هذه التظاهرة ميزة الإستشراف على المنتج السينمائي العالمي بكل تجلياته الفنية والجمالية والتجارية، وفي الوقت ذاته إختيار أفضل ما عرض في المهرجانات السينمائية العالمية على مدى العام. فقد تمكن القائمون على "مهرجان المهرجانات" من جدولة عرض 245 شريطاً سينمائياً طويلاً و145 شريطاً سينمائياً، منها 39 شريطاً سينمائياً ما بين شريط سينمائي طويل وقصير في عرضها العالمي الأول ومثلها 49 في عرضها الأوربي الأول و235 في عرضها البريطاني الأول. هذه النتاجات قادمة من أكثر من سبعين بلد حول العالم، بما فيها بلدان لا تعرف السينما بمعناها الصناعي والتجاري او عدم توفر دور عرض سينمائية حديثة كما هو حال الصحراء الغربية والسعودية.
وعليه، ومثلما عرفت مدينة لندن بكونها "قلب كوسموبوليتاني"، حسب تعبير المديرة التنفيذية لمعهد الفيلم البريطاني آماندا نيفيل، فهي أيضاً "حاضنة لقصص وتجارب قادمة من خلف البحار عبر وسيط فني عظيم إسمه السينما". ولئن إختارت نيفيل كلمات تقديم برنامج هذه الدورة بعناية دقيقة، فإن المقصود منه هو إرسال إشارات بليغة غرضها جذب وإستقطاب شركات الإنتاج السينمائي ورؤوس الأموال للإستثمار والعمل على أرض هذه المملكة بعد قرار خروجها الموجع من الإتحاد الأوربي. ومثلما وجدت السينما العربية، او التي تقارب مواجع شعوب تلك المنطقة من العالم، بكثافة وقوة في ثنايا برنامج هذه الدورة. فان كلير ستيوارت، المديرة الفنية لهذه التظاهرة، رمت بثقل خياراتها نحو قضية بدت ساخنة، الا وهي العنصرية المتصاعدة في أكثر من بلد أوربي خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. وعليه حشدت لبرنامجها حزمة إشتغالات سينمائية موقعة باسماء بارزة او صاعدة، بدءاً بشريط "مملكة متحدة" للكاتبة والمنتجة والممثلة والمخرجة البريطانية/من أصول غانية أما أسانتي الذي أفتتحت به هذه الدورة، مروراً بشريط "تشي-راك" لسبايك لي و "مولد أمة" لنات باركر الفائز بجائزة مهرجان سان دانس الأخير لأفضل عمل أول، والذي حمل عنوان إسم شريط كلاسيكي للمخرج الأميركي دي. دبليو. غريفيث نفذه في العام 1915. وعلى المنوال نفسه قدمت المخرجة الهندية القديرة ميرا ناير عملها "ملكة كاتوا"، والمقتبس من قصة حقيقية لبطلة لعبة الشطرنج الأوغندية فيونا موتوزي. ومثلها يأتي شريط "الـ 13" لإيفا دوفيرناي، وفيه عودة لمناقشة التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي والخاص بإلغاء العبودية. وعلى هامش هذه الإشتغالات عقدت حلقات دراسية بحثت مشاكل ومعوقات الممثل/ة من ذوي البشرة السوداء في السينما وأفاق تكافؤ الفرص وممكنات فتحها أمامهم. وضمن هذا المنحى بادرت هذه الدورة، وعن إستحقاق، بتكريم المخرج والفنان البريطاني ستيف ماكوين، "12 سنة عبودية" والفائز بأوسكار أفضل فيلم سينمائي قبل عامين، بزمالة معهد الفيلم البريطاني، وليكون أول مخرج من ذوي البشرة السوداء يحض بمثل هذا التشريف.
بالمقابل، ومن قصة حقيقية يدعونا شريط "مملكة متحدة"، وثقت تفاصيلها الكاتبة البريطانية سوزان ويليامز في كتابها "كولر بار" (حانة ذوي البشرة السوداء) قبل عقد من الزمن، إلى متابعة دراما حب جارف تجمع سيريتسي خاما(ديفيد أويلوو) وريث عرش بوتسوانا، والشابة الإنكليزية روث ويليامز (روزموند بايك)، التي تعمل كاتبة طابعة في شركة شحن نهاية أربعينيات القرن الماضي. إلا ان أجواء العام 1948 المشحونة بالتوقع ولملمة جراح آثار الحرب العالمية الثانية، والإعتراضات على علاقة من زاوية اللون، تقرر روث، أبنة العشرين والنيف من العمر، المضي في مشروع زواجها مع سيرتيسي والإنتقال معه الى أفريقيا بعد حصوله شهادة القانون. ومن خلال إعتراضات عائلة روث المحافظة ومحيطها الإجتماعي التقليدي والمؤسسة السياسية بإفشال هذه الزيجة، تعيد المخرجة أسانتي سؤال لون البشرة والعرق، وعبر سؤال مفاده هل يحتاج الحب والموسيقى الى ترسيمات الحدود؟ إزاء إصرار الزوجين تندلع أزمة سياسية ودبلوماسية بين ويستمنستر وبوتشوانا لاند، ولتدخل دولة جنوب أفريقيا على الخط معتبرة تلك الزيجة تهديداً لنظامها القائم أساساً على الفصل العرقي والعنصري. ولكي تضفي على هذه الإحتفالية بريطانيتها، أختارت ستيوارت شريط "نار مجانية" للبريطاني بن وييتلي ليكون شريط ختام "مهرجان المهرجانات"، وعبر سردية لا تبتعد عن عالم الجريمة والعنف والدم والمطاردات، تأثيرات منتج الفيلم المعلم الأمريكي مارتن سكورسيزي بدت واضحة، رغم أن إشتغالات سام بيكنباه ورينغو لام السينمائية كانت هي الأقرب الى روح الشريط.
بالمقابل، ومن بين كم هائل من الأفلام المعروضة، يأتي عمل الفرنسي فرانسوا أوزون "فرانتز"(113 د) ليقف في مكان متقدم من خيارات سينمائية منوعة. إذ سبق وان خرج هذا العمل السينمائي المهم خالي الوفاض من جوائز مهرجان فينسيا الكبيرة، وأكتفى فقط بجائزة النجم السينمائي الإيطالي مارسيلو ماستروياني لأفضل عمل فني. من إقتباس حر لنص مسرحي، كتبه مواطنه موريس روستان غداة نهاية الحرب العالمية الأولى وقدمه المخرج الأميركي/من أصل ألماني أرنست لوبيش الى السينما بعنوان "تهويدة مكسورة" في العام 1931، يعيد صاحب "بوتيش" و "8 نساء" و "حوض السباحة" صياغة فكرة تلك المسرحية. وعبر نقل ثقلها الدرامي الى البطلة المكلومة بفقدان خطيبها، بدلاً من سردها من وجهة نظر فرنسية، أول فيلم للمخرج بالألمانية. تدور أحداث الشريط في بلدة ألمانية صغيرة بُعيد نهاية الحرب العالمية الأولى، صور بالأبيض والأسود لتكثيف حس الهزيمة العسكرية وما خلفته من أجواء قاتمة، حيث تحرص الشابة أنّا (أداء رائع للممثلة الألمانية الشابة باولا بير، مواليد 1995)، على زيارة قبر خطيبها فرانتز يومياً الذي قتل في فرنسا خلال الحرب، إلا انها تكتشف ذات يوم ان هناك شخصاً ما زار المكان ووضع وردة بيضاء على القبر. ما يفتح أسئلة لأنا وعائلة خطيبها، الأب طبيب وزوجته ربة بيت، لمعرفة هوية هذا الزائر الغريب. في الساعة الأولى من الفيلم تتكشف لنا شخصية الشاب أدريان (الممثل الفرنسي بيير نيني)، أو هكذا يقدم نفسه لنا كمشاهدين ولعائلة فرانتز على انه صديق مقرب لأبنهم، وزيارته لهم هي الأقرب الى الإستحقاق الوجداني. وحسب قصص أدريان فقد تجول الإثنان في شوارع باريس، وزارا سوية متحف اللوفر لمشاهدة لوحة مفضلة لهما تحمل إسم الفنان مونيه والقابعة في نهاية إحدى صالاته، ويشتركان في حب الموسيقى والعزف على آلة الكمان. الأيام المعدودة التي يقضيها أدريان في تلك القرية تغير من مزاج العائلة السوداوي، إذ يجدوا في قصص صديق أبنهم بلسماً لفقدان عزيز عليهم، ما يدفع الأب الى تغيير رأيه المحافظ والمتشدد بـ "العدو الفرنسي"، أو كما يقول "ان كل فرنسي هو قاتل ولدي"، وفي موقف لا يخلو من تسام على خسارته الشخصية. هذا الموقف عبر عنه صراحة في لقاء مع أصدقائه المقربين حين يدعوهم الى تناول مشروب معه لكنهم يرفضون عرضه، وحجتهم أنه إستضاف الفرنسي وغفر له، لكنه يصب جام غضبه على "حكومته وعلى الآباء الذين أرسلوا أبناءهم الى جبهات القتال لمحاربة العدو وبحجة الدفاع عن أرض الآباء ويحملهم مسؤولية فقدان فلذات أكبادهم". هذا الخط من الحبكة يعيد الى الأذهان مباشرة، على ما أظن، بعضاً من أجواء رواية "كل شئ هادئ على الجبهة الغربية" للألماني إريك ماريا ريمارك. بين لحظات تذكر حميمية، وتصاعد مشاعر أنا تجاه أدريان، حيث يعمد المخرج الى تصوير تلك اللقطات بالألوان، غرضها تكثيف حالات السعادة والنشوة العابرة في حياة هذه العائلة. إلا ان المفاجأة، وهنا النقلة الدرامية، تتكشف لنا على شكل بوح أسرار بين أنّا و أدريان، الأولى ان قبر فرانتز فارغ من جثمانه وهذه حقيقة تعرفها أنّا لوحدها، والثانية هي ان أدريان هو من قتل فرانتز في إحدى الخنادق وأستولى على أوراقه. بعد عودته الى بلده فرنسا تدفع عائلة فرانتز أنّا الى اللحاق به باعتباره شخصاً محترماً، إذ يقول والد فرانتز لها وتثني عليه زوجته "حين فقدنا فرانتز وقفت معنا في محنتنا، الآن جاء دورك". بالمقابل، وفي الجزء الثاني من الفيلم، وبعد ان عرفت حقيقة أدريان، ورفضت عروض الإقتران بشاب ألماني بشكل قاطع، تقرر أنّا المضي الى آخر الشوط للحاق بذلك الفرنسي. ولتكتشف، وهنا الإنعطافة الدرامية الثانية، ان أدريان عازف مشهور لآلة الكمان يعمل ضمن طاقم دار الأوبرا، وسليل عائلة من الأغنياء وفوق ذلك له خطيبة. صحيح ان زيارة أدريان جاءت بدافع التكفير عن الذنب وعذاب الضمير لفعلته، أو هكذا نتابع ما يسرد على الشاشة، إلا ان حقيقة الأمر هو بحث ذلك الشاب المضني عن مخرج لأزمته الشخصية وضياعه في عالم لا يستطيع التواصل معه. ما وجدته أنّا في وسامة أدريان المشتهاة كان بمثابة تعويذة تناسي لحزن مكين، وبارقة حياة على عكس ما كانت تدعي بانها سوف لا تنس فرانتز. فيلم "فراننز" من بهاء سينمائي في أرقى تجلياته.