شاكر لعيبي كثر النفّاجون وازدهرت حدائقهم. والنفّاج هو تعريب للمفردة الفرنسية Snob التي يقدِّم لها معجم المنهل المقترَح مضيفاً: مُقلِّد لمن يعتبرهم أرقى منه، وفي قاموس برنامج وورد "المُتشبِّه بالأكابر"، "المُتعاظِم". وفي القواميس الفرنسية هو المعجب الساعي سعياً لمتابعة الدُّرْجة (الموضة) وما يبدو متمايزاً لكن من دون نبلٍ. وللاستدراك الأخير أهمية قصوى.
المفردة من أصل إنكليزي وتقدِّم لها المعاجم البريطانية تحديدات من قبيل إنه شخص يميل إلى رفض أو تجاهل الناس المعتبرين أدنى اجتماعياً وهو يقلِّد أو يُعْجَب أو يتقصّد الاندماج مع من يعتبرهم أكثر رقياً. وفي تعريف إنكليزي آخر إنه شخص يتصنَّع هيئة من الرضا بالتفوق الذاتيّ في مسائل الذوق أو الفكر. والتعريف الأخير ينطبق، ويا للحسرة، على الكثير من الأسماء السائدة في الميديا العربية اليوم. يتذكر المرء مفردة مشابهة عندما يطالع المتابعة التي كتبها أنطوان جوكي من باريس، والإشارة الدائبة إلى باريس ذات بعد تفخيمي، بعنوان "حوارٌ مع باتريس تريغانو حول شخصيته المتمرّدة ومواهبه الكثيرة" (جريدة المستقبل - الثلاثاء 26 كانون الثاني 2010 - العدد 3549 - ثقافة و فنون) ويجيء فيها: "تريغانو يعيد الكرّة في كتاب جديد أصدرته حديثاً الدار ذاتها بعنوان "موعد في زنزيبار" ويُشكّل حواراً...إلخً"، مع صورة غلاف الكتاب. ينقل جوكي الاسم Zanzibar مثلما هو: (زنزيبار) وليس ( زنجبار) التي يعرفها حتى طلاب الثانويات العامة، خاصة لجهة علاقات هذا البلد القديمة المستمرة مع العالم العربي. لا يتعلق الأمر هنا بسهو عابر كلنا معرضون له إنما بالمعرفة نفسها. ليس بخطأ في المتشابهة أو بشطحةٍ في التأويل اللصيق بعملية الترجمة إنما بالمعلومات العامة الأولية. ليس مهماً هنا دأب الصحفي الكريم على ترجمة وإعداد مقالات منشورة في الصحافة الفرنسية وعزوها لنفسه قدر أهمية هذه البرهان الذي يدل بوضوح على ظاهرةٍ ثقافية عريضة. يعرف القراء أن أنطوان جوكي قد أفسد على نفسه قراءة ترجمتنا لأعمال ريلكه الفرنسية عبر مقالةٍ نشرها في جريدة الحياة، مليئة بمتهافِت الكلام ينقد فيها المترجم، مرتكباً أخطاءً ليست، في تلك المقالة، أخطاءه ولكن هفوات من أوحى له بمقالته النارية. ها نحن هنا نتعرَّف على القدرات الفعلية للسيد الكريم، ومعارفه بالجغرافيا والتاريخ ثم بالترجمة من اللغة الفرنسية. علينا أن نسامح الأستاذ أنطوان جوكي كما علَّمنا السيد المسيح. وليس هذا الاستطراد تقريعاً له، بقدر ما هو مثال على العُجالة والخفة السائدتين في ثقافتنا. وهي مثال يتعلق بغيره من القاطنين بيوتاً من زجاج بينما ما زالوا، في العلن وفي السر خاصة، يصوِّبون الحجارة إلى الآخرين، ولا يسامحون حتى هفوات الكائن الفاني فيهم، من دون روح نبيل. يبدو لي أن الثقافة تحتاج إلى النبل وليس إلى جرأة الشعوذة بضروبها كلها، خاصة ضربها الأبرع المتغطّي بلباس المعرفة، ويلزمها كما نظن، قبل النبل الأخلاقي، الاتساق الداخلي وليس المفارَقة الفاقعة. كيف يمكن أن يفهم المرء، بغياب اتساق منطقي، أن تُهاجَم ترجمات مهدي اخريف للبرتغالي فيرناندو بيساوا لأنها جرت من الفرنسية وليس الإسبانية، ذلك الهجوم القاسي المشحون بالبارع من الكلام الذي يُشْهِر الباطلَ بحجج الحق، في حين لا ينبس كائنٌ بكلمة واحدة عن ترجمة أعمال ريلكه الألماني كاملاً، ريلكه نفسه مرة أخرى، في حين أن هناك ما قد يُقال، ليس بشأن براعة المترجم التي أقدّم لها هنا مديحاً لكي لا يُساء فهم فكرتي، لكن بشأن مبدأ الترجمة من لغة أجنبية ألمانيةٍ ما زلنا في حيرة من مواهب المترجم على إتقانها لدرجة الذهاب إلى شاعر عَلَمٍ فيها؟. لو فعل مترجم غيره ما فعله لانتصبت له تلك الأقلام عينها بحجج ظاهرها متماسِك وباطنها أقل تماسُكاً. موازين القوى والمنافع الخفيّة هي التي تتحكّم غالباً في تلك المعارف والنقود، وليس الاتساق الداخلي. غياب الأخير قد يقود إلى تلفيق أخلاقٍ ثقافيةٍ مشكوكٍ بها.
تلويحة المدى :النبل فـي الثقافة والاتساق الداخلي
نشر في: 5 فبراير, 2010: 06:43 م