كنتُ أحدّثٌ نفسي بمثل ما يحدّثني به البعض من الاصدقاء، ونحن نحصي عدد المساجد والحسينيات والمواكب والقنوات الاذاعية والفضائيات وملايين الكاسيتات ومضايف القبائل والعشائر والمباني الخاصة التي أنشأها بعض الوجهاء والميسورين، خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين والى اليوم، فلا نقع على عدد بعينه. ترى ما الذي تغيّر في حياة العراقيين جرّاء ذلك كله، بافتراض، أن أماكن كهذه، إنما أنشئت للخير والصلاح وغايتها الوحيدة العلم والاحسان والتهذيب وما الى ذلك من المعاني؟ ترى، ما المتحقق الفعلي من ذلك؟
أكتبُ المادة هذه، وانا أقف على الأرض التي يلعب فيها الصبية كرة القدم، على الشارع العام، والتي اخذت دائرةُ الكهرباء قطعة صغيرة منها، وبعد عناء طويل، لكي تبني منظومة تحويلية للكهرباء. وأستعين بذاكرتي، فأستعيد معاناة البعض من الذين سعوا بجعل القطعة المتبقية (الملعب) هذه، لبناء مستوصف صحي، وكيف أنهم فشلوا في سعيهم، وكيف أن عضواً في المجلس البلدي استصرخني، لكي أكتب لصالح بقاء الملعب وترك قضية المستوصف. أتوقف طويلاً عند العقلية العجيبة التي يعمل على وفقها غالبية العراقيين اليوم، وأعود فأبحث عن قطعة من الأرض،أعين بها الدولة على بناء مرفق صحي، ينتفع به أهل قريتنا والقرى العشرين المجاورة، ولسان حالي يرتدُّ ويقول: متى كان ملعب كرة القدم أفضل من مبنى المستوصف؟
أشهدُ، أنني ارتكبت خطأ كبيراً، حين بنيت بيتي بسبع غرف للنوم وصالتين وثلاثة حمامات، ذلك لأنَّ أولادي لن يبقوا معي في البيت الكبير هذا، الى الأبد، وسيخرجون منه الى بيوتهم الواحد تلو الآخر، فطبيعة العيش عندنا تتطلب الاستقلال، والزوجة تريد أن يكون لها بيتها الخاص بها، فقد ذهبتْ الى غير رجعة طريقة عيش الأهل في دار كبيرة واحدة، مهما كانت كثرة العيال، وها، هو أحمد ينتقل الى بيته الجديد، وبكل تأكيد سينتقل أشقاؤه الى بيوتهم تباعاً، تلك التي سيبنونها، وسأبقى أنا مع أمهم، ذات يوم، وحيدين، غريبين في الدار الكبيرة هذه. ترى، ما الحكمة، من البناء والجهد تبديد المال، ولمن سيؤول البيت الواسع، ذي الغرفات السبع؟
أسوق هذه وانا أبحث في جدوى بناء المساجد والحسينيات والمضايف تلك، التي يجتهد (الكرماء، الميسورون) في تشييدها، إذا كانت الجدوى من بنائها لم تتحقق، ويبدو أنها لن تتحق، فالناس في وادٍ عميق من الجهل والخير في وادٍ بعيد عن الناس. وبإحصائية سريعة نجد ان الإيمان والتدين لدى الغالبية من الناس ليس في موضعه الصحيح، وهناك استثمار للدين والأخلاق لم نعهده من قبل عند الطبقة النافذة، بعد أن اقتيدت خيل السياسة الى أسوأ مرابضها، فهي في أقذر حضائرها، وغير خاف على أحدٍ بأن نسبة الجريمة في ازدياد مخيف، وأن تجارة المخدرات تنمو يوما إثر آخر، وأن معدلات الطلاق هي الأعلى، من خمسين سنة، وأن درجة الأمان والطمأنينة هي في حدودها الدنيا، اما التعليم والصحة والامية والقتل على الهوية والمال والخلاف العشائري وشرعنة المحرم واستباحة الدم لأتفه الاسباب وغير ذلك، مما لا نحصيه في الورقة الصغيرة هذه، فحدّث ولا حرج.ترى، ما الجدوى؟ ولماذا الهدر والتضييع في الجهد والوقت والمال في ما لم يتحقق منه شيئاً ؟؟؟
كنت توقفت طويلاً عند مقطع تداولته الصفحات على الفيسبوك، مفاده ان مجموعة من الشبان تدربوا على مسرحية واقعة الطف، فمثّل أحدهم الحسين وآخر العباس وثالث الشمر ووو، لكنهم، وفي العرض الأخير، حين وقع على الأرض من كان يمثل شخصية الحسين، وتناوشه الآخرون بالضرب والركل والسباب تحول المشهد من المسرح الى الواقع، وصاروا يضربون بعضهم، ثم دخل الحلبة من لم يكن ممثلاً، وفجأة، انقسموا الى فريقين، بعيداً عن القضية التي اجتمعوا لأجلها، فانتصر هذا الى ذلك، لا بحسب الولاء للمذهب والحسين والعاشوراء، إنما الى العمومة والعشيرة التي انحدروا منها . ترى، ما الجدوى، إذا كان هؤلاء، ومثلهم الملايين، وبعد ترددهم مئات وآلاف المرات على المساجد والحسينيات والمشاهد والمزارات لم يتوصلوا بعد، الى فهم قضية واضحة جدا، مثل قضية الحسين.
في جدوى بناء ما لا جدوى منه
[post-views]
نشر في: 22 أكتوبر, 2016: 09:01 م
جميع التعليقات 1
علي رحماني
الصديق الشاعر الجميل الخصيبي ...انها جدوى الكتابة وهم لا يقرؤون ...وربتما يضحكون علينا ...تنفطر قلوبنا ونحن نقرا ونرى العمق في التحليل ...وهم في وادي ونحن في وادي ....وتحيتي لروعة ماينبض به قلمك ولروحك الشاعرية الجميلة ....