لا يُمكن لهذه الساحة إلاّ أن تكون في وسط روما وفي قلب أحيائها التاريخية، ففيها كل شيء، حجارتها الصخرية، المعروفة باسم «سان بييتريني» المكعبة الشكل والتي رُصفت بها الساحة والشوارع المطلّة عليها، وناسها من مختلف الأشكال والأجناس، شباب، شيب
لا يُمكن لهذه الساحة إلاّ أن تكون في وسط روما وفي قلب أحيائها التاريخية، ففيها كل شيء، حجارتها الصخرية، المعروفة باسم «سان بييتريني» المكعبة الشكل والتي رُصفت بها الساحة والشوارع المطلّة عليها، وناسها من مختلف الأشكال والأجناس، شباب، شيب وأطفال، نساءٌ ورجال وأطفال، لاعبو سيرك ومومسات، رهبان، جنود وخريجو سجون، باعة متجوّلون وجنود أمريكان يتجولّون بين سكّان الساحة في ساعة الفسحة.
نحن إذاً في نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات، الجميع في الساحة بانتظار وصول «المايسترو»، الذي ليس بالإمكان إلاّ أن يكون «فيديريكو»، كما حلا للجميع مناداة فيديريكو فيلّيني. وليس بإمكان تلك الأجواء وتلك البشريّة إلآّ من صنع خيال هذا الرائي الشمالي الذي أجاد، كزميله ومواطنه في إقليم «إيميليا رومانيا» بيير باولو بازوليني، قراءة روما وأجوائها وعوالمها أفضل من أي روماني آخر، ففي أعمالهما من روما ما يفوق إنجاز عشر كتاب وفنانين وُلدوا في «المدينة الخالدة». عالم الساحة وبشرها مهمومون بأمر واحد فحسب، أي انتظار المايسترو والحصول على مقعد أمامي لحضور العرض الإول لفيلم «روما» من بطولة «آنّا مانياني»، نجمة الواقعية الإيطالية الجديدة دون منافس، وهي من يستفسر عنها المايسترو لحظة وصوله، لكّن «آنّا»، لم تحضر بعد، فلها، كديدنها، توقيتها وإيقاعها الخاص، والمايستر يعرف ذلك، فيُعطى الإشارة إلى منظّم الحفل بإطلاق الفيلم.
وإذْ ينشغل الجميع بمشاهدة الفيلم، تبدأ مسرحية أخرى أبطالها اثنان من سكان روما، من الطبقة الاجتماعية الرثّة، أحدهما «توليو» روماني أصيل والثاني «بوبليو» يصفهما الكاتب (الشاعر الروسي الحصل على نوبل للآداب) يوسيف برودسكي، بأنّهما “اثنان يعيشان في القرن الثاني القادم من زماننا…”، كتأطير واضح إلى عدم ارتباطهما بزمن ما، حتى وإنْ تواجدا في صلب ذلك الزمان، فهما «حاضران» في الماضي الغابر، أو هما حاضران الآن، وسيكونان كذلك في أى مستقبل مقبل، وهما ليسا، في الحقيقة، إلاّ شخصاً واحداً، أو وجهين لشخص واحد، وهو ما جعل المخرج الروسي آليكساندر سوكوروف أن يقوم بإلباس كلٍ منهما قناعاً يرسم وجه الآخر ويغطّي القناع خلفية الرأس، ما يوحي بإن وجه الواحد منهما، إنّما يمثّل داخل الآخر. برودسكي.. سوكوروف.. فيلّيني وساحة روما.. وأي مكان لاستقبال هذا الكون المليء بالأعاجيب والتداخلات أفضل من «المسرح الأوليمبي» في مدينة فيتشينسا الإيطالية؟ ، ذلك المسرح الفريد من نوعه في العالم والذي صمّمه وشيّده المعماري الفيتشينسي الكبير آندريا بالّاديو في عام ١٥٨٥.
وحين عرضت المدينة على الناقد المسرحي الإيطالي ماركو لاييرا بإعادة صياغة مهرجان المدينة المسرحي، أدخل أول تعديل على المهرجان بتغيير اسمه من «دورة العروض الكلاسيكية في المسرح الأوليمبي» إلى «حوارات». ولم يفعل لاييرا ذلك كإشارة للحوار المسرحي أو الحوارات السياسية والثقافية فحسب، بل، وبالدرجة الأساس، «الحوار» بين الأشكال الفنّية وأنماطها. ويقول “كنت أحتاج إلى عمل ينطلق من البصيرة، كون ما سأُنجز سيسكن فضاءً ذا خصوصية وتميّز فريدين، مثل «المسرح الأوليمبي» الذي ولد من بصيرة فنّان كبير مثل آندريا بالّاديو، وحين وقع ناظري على نص يوسيف برودسكي المسرحي الوحيد «كُتل المرمر» فكّرت في الحال بأكثر المخرجين بصيرة، آليكساندر سوكوروف. كنت أشاهد آخر أعماله السينمائية وخرجت للتو من صالة السينما بعد عرض فيلمه الأخير «فرانكوفيا» (الذي عُرض في الدورة الـ ٧٢ من مهرجان البندقية «فينيسيا» السينمائي).
لقد تضمّن الفيلم، برأي ماركو لاييرا تفسيراً خاصّاً، وقراءة لتداخل الأحداث وتناظر الشخصيات التي مرّت عبر هذه التواريخ “ولم يكن برأيي بمقدور أحد قراءة ذلك التوصيف الذي وضعه برودسكي في مطلع المسرحية لشخصيتيه اللتين تعيشان (بالمضارع) في القرن الثاني من زماننا.
ويقول “حملت هاتفي واتّصلت بسوكوروف وطلبت منه أن يستقّل أول رحلة من موسكو إلى فينيسيا.. وهكذا فعل…”، وولد عرض مسرحية «Go, Go, Go..» المقتبسة من نص «كُتل المرمر» ليوسيف برودسكي وإخراج آليكسندر سوكورف وبمشاركة ما يربو على خمسين ممثلاً ولاعب سيك وأكروبات. وبالدرجة الأساس بحضور مهيب للمعماري الإيطالي الشهير «آندريا بالاديو» ( ١٥٠٨ - ١٥٨٠ ) بـ «المسرح الأوليمبي» في مدينة فيتشينسا.