TOP

جريدة المدى > عام > "غصن مطعّم بشجرة غريبة" للشاعر صلاح نيازي..سيرة ذاتية تؤرخ للمدن

"غصن مطعّم بشجرة غريبة" للشاعر صلاح نيازي..سيرة ذاتية تؤرخ للمدن

نشر في: 29 أكتوبر, 2016: 12:01 ص

من الناصرية جنوب العراق، الى لندن، وبينهما بغداد وحلب وتركيا وميلان، إنها رحلة في كتاب، وكتاب مكان بالدرجة الأساس، رحلة مدن تركت في ذاكرة الشاعر صلاح نيازي ندوباً ومباهج، وهي سيرة ذاتية مشبعة بالمشاهدات والأحداث والوقائع.
في الناصرية ،حيث ولد، يتذكر

من الناصرية جنوب العراق، الى لندن، وبينهما بغداد وحلب وتركيا وميلان، إنها رحلة في كتاب، وكتاب مكان بالدرجة الأساس، رحلة مدن تركت في ذاكرة الشاعر صلاح نيازي ندوباً ومباهج، وهي سيرة ذاتية مشبعة بالمشاهدات والأحداث والوقائع.

في الناصرية ،حيث ولد، يتذكر الشاعر تفاصيل الأمكنة التي مر بها، وقبل ذلك البيت الذي رأى النور فيه والبيوت الأخرى التي انتقلت إليها العائلة، يؤرخ لطرزها وألعاب الصغار والصبية، مراهناتهم، أحلامهم الصغيرة ومشاكساتهم، لكن تبقى الناصرية، هذه المدينة التي عُرفت بالفن والفنانين والأدباء والسياسيين، والغافية على نهر الفرات، تبقى مرتعاً لتواريخ لم تبرح الذاكرة، ومنها الفرهود أيام الجوع في الأربعينات من القرن الماضي، عندما هاجم الفلاحون الجياع المدينة ونهبوا بيوتها بضراوة، ثم الطائرة الانكليزية التي أخرجت الناصرية من جلدها هلعاً، صافرات إنذار متواصلة وأزيز وخوف يجعل الناس ينبطحون على الأرض، والتموين أيام الحصار، والأمراض التي تقصف الأعمار، سلّ وبلهارسيا وملاريا، وإلى جانب كل هذا ثمة أمور أخرى دخلت الى الحياة لم تكن معروفة، ثياب افرنجية وأدوية مدموغة بكتابة انكليزية وعطور وديتول وصابون اللوكس والكعب العالي والتنورة.
نهر الفرات يحتضن المدينة من الغرب، وأطلال أور السومرية من الشمال، والصابئة المندائيون جنوباً..أغلى البيوت وأعلاها كان يسكنها اليهود فيما يرزح الكثير تحت وطأة الجوع، أما الجنود فكان يُنظر إليهم على أنهم غرباء، يأتون الى الناصرية من مختلف المدن العراقية، وتقع ثكنتهم على الجانب الغربي من نهر الفرات، وكانت تلك الثكنة هي البناية الوحيدة في ذلك الوقت، يقول الكاتب على الصفحة 12 " الجنود هؤلاء فئة خاصة جداً، ولهم امتيازات حكومية على السكان، فمن ناحية أنهم فاشلون في الدراسة عموماً أو فقراء لم يكملوا الدراسة، ومن ناحية أخرى يأكلون ويشربون وينامون مجاناً، وهم الى ذلك بعيدون عن أهاليهم وعن الرقابة الاجتماعية التي نشأوا عليها، فما من رادع إذا عاثوا فساداً في مدينة."
يحكي صلاح نيازي عن أول صيدلية وأول مكتبة في الناصرية، ولا ينسى قطار بغداد البصرة الذي يمر بالناصرية، لكن الحركة الثقافية تحتل الكثير من اهتمامه، ويذكر لنا بهذا الصدد أهم ثلاثة شعراء على رأسهم رشيد مجيد، وهو شخصية غريبة، وعبد القادر الناصري الذي اشتهر حينما ذهب الى بغداد، والشاعر فاضل السيد الذي لم يكمل دراسته، وكان يعمل بقالاً وانتسب الى الحزب الشيوعي.. ومن الشعراء الآخرين محمد الفايز، رفيق طفولة الكاتب، الذي أصبح فيما بعد وكيل وزارة، وحامد الغري مدرس اللغة العربية.
كتابان كان لهما أثر كبير في بداية حياة الشاعر صلاح نيازي، الأول حول الجرائم واللصوص، وهو عبارة عن محاضر الشرطة أخذت من إفادات المجرمين كتبه معاون شرطة، والثاني هو "سيرانو دي برجاك" الذي ترجمه المنفلوطي عن "الحب المقدس" ومن الشخصيات التي لم تبرح ذاكرة الشاعر صلاح نيازي، الشيخ حسين، وهو رجل شبه أعمى يأتي الى الناصرية في أيام عاشوراء لإلقاء الخطب والمراثي، ومعروف عنه أنه يحفظ دواوين شعرية كاملة. تلك باختصار كانت أول محطة يقف عندها الشاعر، بعدها تبدأ مرحلة الحياة في بغداد الخمسينات، حينما انتقلت العائلة وسكنت بالإيجار في منطقة الشواكة الواقعة على نهر دجلة، ودخل الفتى صلاح نيازي الإعدادية المركزية.. يؤرخ الكاتب لمنطقة الشواكة ويصف أزقتها الضيقة النافذة وغير النافذة، وأشهر فتيانها في الرياضة وأدبائها وفنانيها الرسامين والخطاطين، والشعراء الذين يقرأون مجلات "الأديب" و "الآداب" و "الرسالة" و "الرواية" التي كانت تباع على شكل مجلدات. كانت بغداد في ذلك الوقت تجترح معجزاتها "ظهر في تلك الفترة أهم المهندسين المعماريين والمحامين والرسامين والنحاتين والاقتصاديين، بالإضافة الى رموز الشعر الحديث والقصة والرواية" ص 30. لا تغيب عن ذاكرة الشاعر تلك التفاصيل الصغيرة، ولا تفوته تلك المقارنة بين الناصرية وبغداد "بغداد أسرع إيقاعاً وأكثر حيوية، ويتنافس فيها القديم والحديث بانسجام، أي أن الحديث لا يقتلع القديم، ولا القديم حجر عثرة أمام الحديث، تعايش فريد، تنوع الأقوام الذين يسكنون فيها، غنى في الأزياء والعادات، ولكل محلة لهجة" ص30 أيضاً، ثم يأخذنا صلاح نيازي الى ليل بغداد، فتتحول هذه المدينة الى الهدوء بعد نهار تكون فيه عصبية المزاج، في الليل تنفلت النفوس حيث النهر وشارع أبي نؤاس، والأحياء الآجرية ورغبة الناس بامتلاك كل شيء.. وهنا يغرق الفتى القادم من الجنوب، يغرق في كل شيء ولا تبارحه المقارنة بين الناصرية وبغداد من حيث اللهجات والملابس والتوجهات والأحلام ورائحة البيوت.
في بغداد كان صلاح نيازي يبحث عن شيء مفقود لم يجده أبداً "لم أكن تعيساً لكن حزني لا حد له، كنت أفتش عن شيء مفقود في حياتي، تصورت أن طاقية الإخفاء ستدلني عليه، منذ طفولتي شعرت بشيء مفقود، وها أنني في بغداد أفتش عنه في الكتب"ص32
يصف صلاح نيازي الطريق الذي يقطعه الى الكلية صباح كل يوم فيقول "هذه بغداد عاصمة الرشيد والدنيا، أمشي بين أزقتها، وتواجهني كل صباح المدرسة المستنصرية، وأنا في طريقي الى الكلية مروراً بعيون المها بين الرصافة والجسر، كنت أعيش تاريخاً داوياً، وقد اكتفيت بجواريها العباسيات عن ملاهيها، كنت أعيش مدينتين، مدينة وهمية هي كل الواقع، ومدينة واقعية كالوهم" ص32 وذكريات صلاح نيازي أيام الكلية كثيرة، أساتذته هم أبرز الأسماء التي تركت بصمة واضحة في الحياة العلمية والأدبية في بغداد، منهم العلّامة اللغوي مصطفى جواد، وكمال ابراهيم وعلي جواد الطاهر وسليم النعيمي وعبد الستار الجواري وعبد الواحد لؤلؤة وصفاء خلوصي ونازك الملائكة، ويصفهم بـ(الشلّة العجيبة) "هذه الشلة العجيبة مدارس فكرية عريقة، بفضلهم كانت خياراتنا أوسع، ومداركنا أشمل وأعمق" ص33.. أشرفت رحلته الممتعة تلك على النهاية، حيث "دخل القطار الأمريكي الى العراق وتوحّش البشر، كأنما لم يكونوا من صنع الله وخلقه" ص38
ويصف لنا صلاح نيازي ما كان يحدث من بشاعات ومطاردات، فلم يجد غير الهروب من الوطن، وهكذا تبدأ رحلة جديدة، ليس لحياة تحفظ له كرامته بل لموت أكثر رحمة من الحياة "أردت أن أختار نوع موتي كما أختار السهروردي موته" ولكن صلاح نيازي سيعيش وسيكتب، وسيواصل مسيرته الإبداعية، ولكن بعيداً عن الوطن.
مرور سريع في حلب، ومنها الى تركيا في قطار، ومع رجال مريبي التصرف والنظرات، ومحطات لا يُسمع منها غير إطلاقات نار بين الشرطة والمهربين، وشاب أحدب يحكي عن مغامراته في سلك التعذيب، فترد أمه بين جملة وجملة "الله يفضحك" وحين انتهت رحلة القطار بدأت رحلة الباخرة، مدن مزدانة بالجبال والمطاعم واللهجات الغريبة، ومع أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، وكانت وجهته لندن دونما تخطيط لأي شيء.. كان ذلك في العام 1963. وهناك، في لندن، كان كل همه أن يموت بعيداً عن الوطن، إلا أن الوطن كان لصيقاً بجلده، كل شيء من حوله غريب وموحش وهو وحيد ومفلس، يلم أعقاب السجائر من الشارع ويكتب الى نفسه قصائد لا أحد يسمعها سواه، ويحاول بجهد جهيد أن يتعلم اللغة الانكليزية، وطبعاً من دون دخول أية مدرسة، ولأكثر من عام وبمثابرة متواصلة أتقن هذه اللغة وتجاوز الجدار الأهم في الغربة.. كان عصامياً في تعلم اللغة الانكليزية، وخير دليل على ما وصل اليه فيما بعد هو ترجمته لأصعب رواية عالمية ظهرت في القرن العشرين، وأعني بها "عوليس" لجيمس جويس، فهذه الرواية كما يتفق عليها النقاد والباحثون والقراء واحدة من أكثر الروايات صعوبة في الترجمة، لكن صلاح نيازي أنجز ترجمتها بزمن قياسي على ما هو معروف من طولها ومن آلاف المفردات التي صاغها وابتكرها جيمس جويس في حينه.
 لقد تمكن صلاح نيازي في سيرته الذاتية هذه من إضاءة الإحساس الجواني، ولم يكتف بذكر الأحداث فقط كما فعل الكثير ممن كتبوا مذكراتهم الشخصية، بل كانت الأحداث التي ذكرها طريقاً لكشف الداخل غير المنظور من زوايا عديدة، لقد كتب صلاح نيازي عن الروح اللندنية، عن سلوك الناس وتمسكهم بالقوانين، عن الموسيقى والفن التشكيلي، عن علاقته بطالب الدراسات الشرقية الذي طلب منه فك معاني الكلمات في الشعر الجاهلي ومنها قصائد الرثاء، ومع كل ما رآه وعاشه في الغربة ظلت روح صلاح نيازي منشدّة الى بلده، والى زوجته وابنته اللتين حالت الظروف دون لقائهما الا بعد سنوات طوال، وظل وفياً لتراثه العراقي، فواصل دراسة التاريخ السومري، ربما ليجد يوماً ما روحه الهائمة والشيء المفقود الذي يبحث عنه، وقد نأى بنفسه عن التكتّل والتحزّب طيلة ما مر من سنوات.. إن سيرته المعنونة "غصن مطعّم بشجرة غريبة" هي رحلة ممتعة، وبحث دائم عن أشياء نفتقدها، عن خلود نسعى إليه في كلمة أو جملة موسيقية أو لوحة.. أو في أرض غريبة بديلة عن وطن يضيّع أبناءه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

تنويعات في الوضوح

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

مقالات ذات صلة

الحصيري في ثلاثة أزمنة
عام

الحصيري في ثلاثة أزمنة

زهير الجزائري معي في الصف حتى نهاية الدراسة الابتدائية صبي مميز في مكانه وهيأته واجتهاده. يجلس بوقار في منتصف الصف الأمامي. وهو الوحيد الذي بقي يرتدي دشداشة نظيفة مزررة حتى العنق. شفع له كونه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram