عليّ في البدء تقديم اعتذار عميق، لأنني سأتحدّث عن السبب الذي يدفع شاعراً للاهتمام بأدب الرحلة، منطلقاً من تجربة ذاتية. في البدء كان "مسعى أكاديمياً" لإيجاد مصادر تاريخية موثوقة عن الحرف الفنية والجماليات والممارسات التشكيلية عبر التاريخ الإسلاميّ. لا تساعد المؤلفات والمُصنّفات المُكرَّسة لتاريخ الصراع على السلطة (الخلافة والإمارة) وسِيَر الخلفاء والسلاطين والحكام والولاة، ولا كتب الأحكام الفقهية، في العثور على المعطيات المرغوب بها. كان الانتباه إلى أعمال الرحّالة العرب أجدى، لأنهم في معرض تقديم الأوصاف للبلدان وتقاليدها، كانوا يمرّون عَرَضاً على عمارتها ونسيجها وخزفيّاتها وزجاجيّاتها ونحاسيّاتها، وأنماط أزيائها إذا اعتبرنا اللباس نمطاً فنياً. المقدسي البشاريّ، مثال باهر في سياق إشاراته المتواترة للصناعات الفنية المعروفة في البلدان التي مرّ عليها. بالتوازي مع الرحّالة لا ننسى الجغرافيين والبلدانيين المسلمين الذين قدّموا أوصافاً عَرَضِيّة مماثلة.
بعد ذلك جاءت فترة البحث عن اوائل لقاءات العالم العربي بـ (الحداثة التشكيلية) الأوربية، ومن جديد كانت العودة لرحلات وسفاريات الرحّالة المغاربة إلى أوربا بين القرنين السابع عشر وبداية العشرين عشر (كالغسّاني والمكناسيّ والصفّار والعمراويّ) مفيدة وثمينة، لأنهم، هم بالأحرى، من شاهد ووصف وكتب عن متاحف ولوحات وتماثيل الغرب الأوربيّ، بروح من الدهشة والاستغراب والصدمة الجمالية. وبالطبع فإن إشاراتهم لمنجزات الفن التشكيليّ الأوربيّ استحقت درساً منفصلاً وكتابة، أحسب أن باحثاً مغربياً قام بها.
وإذا ما أضفنا لذلك الطابع الأنثروبولوجيّ للكثير من أعمال أدب الرحلة، التي تقع في صلب اهتمامات المعنيّ بالشعر وبالشعريات، وأكثر من ذلك الطابع الفنتازيّ، الغرائبيّ والمتخيّل في نصوص الأدب، لوجدنا لقاءً حميماً بين الشعر والأدب الرحليّ، ومن أوسع الأبواب. لهذا السبب كان الكاتب منهمكاً وما زال بالرحلات العربية، القديمة خاصة، فأعاد تحقيق واحدة شهيرة، هي رحلة ابن فَضْلان في القرن العاشر الميلاديّ، وصنع رحلة ابن بُطْلان (عام 1049م) المبعثرة في المضان التاريخية، وحاز عليها جائزة ابن بطوطة عام 2005، كما فاز بالجائزة نفسها هذا العام عن تحقيق رسالتي أبي دُلف إلى الصين وأرمينيا (942 – 952م) وكتابة دراسة طويلة عنهما، تتجاوز صفحاتها أضعاف نصّ الرسالتين اللتين سالت الكثير من الأحبار عنهما في جميع اللغات، منذ أوائل القرن التاسع عشر.
أدب الرحلة لصيق بمخيالات الشاعر، وسياحاته على كل صعيد، وهي جوبان للآفاق كما يجوب الشاعر نفسه في الآفاق المعرفية والخيالية. وإذا ما كان هدف الرحّالة الرئيسيّ هو الرحلة ذاتها، متعة الارتحال والاكتشاف، وهو ما يُعبّر عنه الرحّالة دوماً بطريقة من الطرق، فإن هذا الهدف ليس بعيداً عن استهدافات الشعر وطبيعة رسائله العميقة، غير المعنية بالعادي والمألوف، المستقر المكرّر. لا يحبذ الرحّالة أيضا الثبات في فضاء مستعاد مُنمَّط. إنه الجوّاب السائح، كالشاعر، كالمتنبي الذي عاش سياحاته حتى أودت بحياته أخيراً، وكبودلير الذي عبّر بوضوح عن فكرة الشاعر السوّاح الحداثيّ، عبر مفهوم الدانديّة.
بعض المقاطع الرحلية تتقاطع مع شعرية السرد، مع شعرية صافية أحياناً، أو مع روح الشعر العميقة (مقاطع عدة عند ابن فضلان، وفقرات طويلة عند المقدسيّ مثلاً). الشعر أيضاً رحلة في الأمكنة وفي أعماق الكائنات الحية، البشرية والحيوانية والنباتية. رحلة ليس على المجاز، وإنما على الحقيقة، مكتوبة بطريقة مغايرة، وبنوع أدبيّ آخر.
الرحلة نصّ يقع في صلب الشعريّة، والشعر نصّ في قلب الرحليّة.










