-2 -توثيق المدن كروح ومعنى ، جنس لم يأخذ حيزه الكامل في ثقافتنا العراقية بعد، والذاكرة تحتمل التعمق والإسترسال عموديا ً وأفقياً ، في تاريخ مدينة بغدادية وأرواحها من البشر الفاعلين في الزمن العراقي وتحولاته .وغالبا ما تكون الذاكرة البصرية لاتكفي
-2 -
توثيق المدن كروح ومعنى ، جنس لم يأخذ حيزه الكامل في ثقافتنا العراقية بعد، والذاكرة تحتمل التعمق والإسترسال عموديا ً وأفقياً ، في تاريخ مدينة بغدادية وأرواحها من البشر الفاعلين في الزمن العراقي وتحولاته .وغالبا ما تكون الذاكرة البصرية لاتكفي في إستعادة جماليات المكان دون تناول العنصر الذي يجب أن لاتشغر منه وهو الإنسان الذي يعطي للمكان هويته.
مدينة الحرية كانت أنيقة بساكنيها ، وفي بيوتها نسل طيب ينتمي لكل الأعراق والقوميات من عرب وكرد وطوائف ،فسيفساء مختلفة عن بقية أحياء بغداد الأخرى ،التي وفد إلى بعضها أبناء الريف الذين دفعت بهم الأقدار للهجرة نحو العاصمة ، أهلها مدنيون ضاق بهم المركز فإنتشروا نحو الأطراف ، تشمّ فيها رائحة الخبز ، يتقاسمه الجميع ، ونكهة الشجر ، هي مسكن لمبدعين من المثقفين والفنانين والأكاديميين في إختصاصات وميادين متعددة ، ألقوا بأشرعتهم فيها ، وإستوطنوا في منازلها ، هذه المنازل لم تعد حجراً، إنها حيّة ، وان لم يكن ذلك بيّناً من خلال المظهر الخارجي للحياة، ذلك مايشير اليه باشلار في جماليات المكان وهو يناقش نظرية (روبينت ) ،التي مفادها : ان الحياة تبني مأواها كما يبني المحار قوقعته .
تبقى الأمكنة جميلة عندما تكون الذكريات عنها جميلة ، حتى المستنقعات تعتبرها الطيور أ ماكن إصطياف ، كما يصفها رياض رمزي في كتابه (سلاما للغربة وداعا ً للوطن).
مازلت صبياً بريء العين أرى هذا الهوى في تراب الأسفار، أشمّ سخونة الجدران وألمح الوجوه المجهدة ، كأنه غزل في تلك الذكريات ، مضت الأسماء ولم تمض، أراحت أجنحتها على صمت ، وعبرت بعضها المرافىء ,وأخرى ظلت هائمة بلا ظل ، والعيون تبحث عن العش ، العش الأول ، في الكتب والصحف القديمة ، والحروف والأوراق .
زهير الجزائري الروائي والكاتب (مديني أيام الدراسة الجامعية ) الشقيقان فرات وفاطمة المحسن ،الصحفية والكاتبة التي لم تنل منها الريح ، ولم تثنِ عزيمتها ،غادرت البلاد بعد أن لبست جلباب الموت ، وأخذت فرصتها في المنفى لتعمق بحثها ودراستها وتضيف أثرا ً مهما في الثقافة العراقية ،بكتابها (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق)، محمد النقدي الشاعرالخمسيني الذي إختار العزلة لينجو من بطش الدكتاتوريات ، موفق هاشم الشديدي القاص والروائي الذي إكتفى بوهج السبعينات ناشراً وكاتباً ، حسين الهنداوي هو الآخر وجد ملاذه في المنفى القسري ،بعد أن لاحت في الأفق الغيوم السوداء لإجتثاث الوطن ، وإنهيار الجبهة الوطنية بين الحزبين الشيوعي والبعث ،مجيد خليل إبراهيم الذي مازال يرافقنا وهو بعيد في غربته ،الصديق الأثيرلحميد الخاقاني ، لم يفترقا قط ، يهاجرمكرهاً بعد تهجيرعائلته ليضلّوا دربهم في الحدود الشرقية ، فشلّت دروب المدينة خطاه ، الجميل فيه ، ان تذكار المدن المنسية لن يوقف نشاطه ، فإجتهد وسعى ونال مرتبة يستحقها ، ابراهيم الكناني الذي توقف عطاؤه بموت مبكر، الأكاديمي المتخصص في التربية وعلم النفس ، رشاد مهدي هاشم المتخرج من إحدى الجامعات الفرنسية ، يعود إلينا بشهادة عليا في الإقتصاد الصناعي منذ أواسط السبعينات ، يحتل موقعه بجدارة في الجامعات العراقية ، رشاد: يمنحنا جمالاً ساحراً،في الحضور واللقاء ، نستند اليه كذاكرة بديلة ، سارداً ماهراً دون أن يجرب الكتابة في السرد ، رحل إلى أقصى القارات ،حين فارقت البذورأرضها ،يقيم في أمريكا ينتظر أن يأتي الغيث لكي لايموت بحزن على الوطن ، مازلت أسمع صوته المرتج بقهقهات طفولية ووجه يحمل في العينين مسرّة .وشقيقه الأكبر الباحث صالح رحل وهو لم يكمل مشروعه الثقافي في الموروث العربي الإسلامي .
جهاد مجيد القاص والروائي،معلماً يافعاً في إحدى المدارس ،يكتب للصحافة العراقية ،بنوايا صادقة ونيرة ومتبصرة ،وينشر فيها قصصه ، تخطفه أشباح الأمن العامة نهاية السبعينات ، لتزقّه سموم الزئبق وترميه في ليل حالك على إحدى الطرقات تنتظر موته العاجل ، جهاد مجيد يجهل العتمة فيستفيق مشلولا لايقوى على الحراك ، حتى ولا أهداب عينيه ظلت في مآقيها ، يصرخ من أعماقه مرتجفا ، لا للموت !!متشبثا ً بالحياة بسنين مرّت باهتة ،ليحزم حقائبه أخيرا بحثا ً عن موطن خارج الأسوار.وسبقه في الرحيل شقيقه القاص الشاب نعمان مجيد ، بعد أن وضع خطاه ثابتة في السرد العراقي ، لكن إلى أين الرحيل ؟ إلى وادي السلام يتمتم لهفته هناك .فما أشق الرحيل ؟!
في السنوات الأولى لصدور (مجلتي)المتخصصة بثقافة الطفل ، التقينا معاً بنخبة من الفنانين والكتاب الشباب ،يحدو بهم الصحفي اللامع إبراهيم السعيد، عندما كانت المجلة تشغل طابقين في عمارة الروّاف المطلة على شارع أبي نواس ،كانوا يغاوون دجلة بالجمال يطلّون عليه يرقبون القوارب والصيادين كأنما تبحر فيهم الأماني والأحلام ، لايشعرون بالضجر، يريحون أجنحتهم بالرسم والكتابة ،تعرفت على سكرتير التحرير إبن مدينتي سامي الزبيدي ، الشاب الوسيم القصير القامة الممتلى حيوية ، وإبتسامة تكشف عن أسنان إكتست بلون أصفرشاحب لكثرة التدخين ، لكنها لا تخفي وسامة الوجه ،مازلت ألمح في عينيه حلماً عابراً وإجابات لكل الأسئلة دون تردد أو عناء ، يملأ أروقة المجلة بخطاه وضحكاته التي تخبىء حكايات أخرى ، فضلاً عن مهارات صحفي شاب أهلته للإنتقال الى جريدة الجمهورية البغدادية ، وقضى فيها وطراً، ثم الخيار الصعب خارج الجدران ، إلى البلاد التي كان يسكنها الهنود الحمر وما يزال .
نكابر ونصمت على جروح ،نحلم (أكثر من اللزوم ) ببلاد للعشق ، لكننا لا نعلم متى تتحول الريح إلى عصف ، ويبدأ جفاف الحقل الأخضر، فشهدت مدينة الحرية عام 1961 أولى جرائم الإغتيال السياسي في عهد الجمهورية الأولى، بعد تصاعد حدّة الصراع والإحتراب المجنون بين القوى السياسية، فكان ممدوح ألآلوسي الضحية ، وهوالمربي اليساري النزعة مدير إعدادية الكاظمية ، ترصدته البنادق أثناء عودته للبيت في أحد المساءات الباردة ، فرحل ظمآناً لوطن يعيش فيه بسلام وتسامح.